العدالة التي تسير على عكاز العفو …لـ: ماهر حمصي

ماهر حمصي
مؤسس و مدير بلا رتوش

في الدول التي تُخفي دماءها تحت طبقات من التصريحات الرسمية، لا يصدر العفو عن طهرٍ أو رجاءٍ بالمصالحة… بل من موائد السياسة، حيث تُوزَّع الذنوب حسب لون المرحلة.

أحدهم تورّط، وآخر أشرف، وثالث برَّر.
ثم حين تبدّل أصحاب الكراسي، صار المجرم شاهدًا، والشاهد ملفًا، والضحية “ملفًا لم يُستكمل بعد”.

في الحالة السورية، لا حاجة لكثير من التبصّر كي تفهم أن ما يحدث ليس عفوًا بل إعادة جدولة للولاءات.
أن يغيب التحقيق، ويُستثنى الضحايا، ويُنزع الاعتراف… ثم نُبلّغ خبر “التسامح” عبر تسريب صحفي أو لفتة رسمية مريبة؟ فذاك ليس مسار عدالة، بل إعادة ترسيم للخرائط البشرية.

فادي صقر، الاسم الذي التصق بمجزرة حي التضامن، يُعاد تدويره في المشهد العام، من دون محكمة أو اعتراف أو حتى بيان يبرر. وكأن العفو هنا، ليس انعتاقًا بل تبنٍّ قسري من طرف السلطة لرجلٍ تغيّر موقعه لا تاريخه.

لكن سوريا ليست وحدها. العالم جرب العفو عشرات المرات.

في تشيلي، احتاجت الدولة إلى عقدين لتتلفظ بجملة: “ما حدث في ظل بينوشيه كان جريمة”، لكنها تلفظتها.

في كولومبيا، لجأت الحكومة إلى عفو مشروط في اتفاق السلام مع “فارك”، حيث لا إعفاء دون جلسات استماع، واعترافات علنية، ومشاركة للضحايا عبر لجان موازية.

على النقيض، في أنغولا صدر عفو شامل بعد الحرب الأهلية، من دون مساءلة أو ذاكرة. كانت النتيجة: عودة التوترات، وتمدد الاحتقان تحت السطح، كما رصد تقرير “أمنيستي” عام 2007.

وفي لبنان… العفو صار مجرد منشار زمني يفصل بين طبقات الحرب، دون أن يمحو أصواتها.

إذا عدنا إلى دمشق اليوم، نرى أن العدالة ليست غائبة فحسب، بل مستبدلة. لا تسوية، لا خريطة طريق، لا مشاركة مجتمعية. بل مجرد إعلان مفاجئ، يُسقط شعور الطمأنينة الأخير لدى الضحايا، ويمنح الجلاد قدمًا جديدة يسير بها في ساحة ما بعد المجازر.

صار المجرم شاهدًا، والشاهد ملفًا، والضحية “ملفًا لم يُستكمل بعد”.

الأسوأ؟ … أن لغة العفو تُروَّج كأنها خطوة نحو السلم… في حين أنها تُغطي آثار الجريمة بطلاء مؤقت، يمحو الحقيقة ولا يُنقّي الذاكرة.

فالعفو النزيه، إن جاز التعبير، لا يأتي إلا إذا تحقق ثالوثه :
الاعتراف، المشاركة، عدم التكرار.

المشاركة تعني إشراك الضحايا والمتضررين في صياغة مفهوم العفو نفسه ، لا أن يكونوا مجرد متلقّين لقرار مفروض عليهم.

وإلا، سنظل نقرأ قصصنا المكتوبة بالدم من جديد،
لكن بلغة تخجل من قول الحقيقة.


يقول محدّثي :
لمّا تخرج الكلمة للعلن …فلا سلطة لك عليها …
كل يرميها بسهم عينه ..

 

ماهر حمصي

إبداع بلا رتوش
إشترك في القائمة البريدية