طفل يصعد إلى السماء ….. شعر لـ : غازي الذيبة

غازي الذيبة
شاعر أردني

كيف اتقيت الخيال

ولم أَتَمَرْأَ * أمام الصور

..

أنا موحش يا ظلال البيوت

وكم كنت أرجف حين تَنزّلَ من زُرقة السقف

نارٌ وموت

..

أنا خائفٌ يا أبي من صراخي الخفيض على الطائرات

ومن رجفتي تحت نشيج القمر

..

أنا طفلك المتهدج عند اختفاء الملامح من وجهنا

وعند اقتراب المواسم

عند احتراق الأغاني على صدر أمي

وعند انتشالي من البئر

..

لا تُعدني إلى زمن غامق بالحِراب

أنا طفل هذي الخليقة

يوم تغادرها الشمس

تنطفئ الريح والصلوات

وتمطر زرقتها لعنة

وقناصة فوق سطح الغيوم

..

أنا طائر يتعثر بالكلمات

ويهمس يا رب خذني إليك

فقلبي الصغير تكسر في ليله

وعمري، أنا لعنة تتبعثر

عند نجوم الغبار وفوق يديك

..

فكم كان عمري قصير

وكم كان قلبي يشق الطريق إلى مقلتيك  

..

أنا.. من أنا يا أبي

لم أعد كالصلاة أصلي

وليس معي أغنيات أجمِّلها بالترنم

كنت شقيا، وألعب في الحوش مع أصدقائيَ

نلهث خلف ديوك الحواكير

نلتقط الحَب مثل الطيور

ونضحك ملء السماء

..

وكنا نغادر أسمالنا عند نبع قريب من الله

نسبح في لجة النبع، نضحك

كانت طيور الحقول تراقبنا وهي تضحك

كانت بنات القرى حين يمرقن

يخجلن من عرينا

ثم يرقصن مع حجل البر

يضحكن حتى تغيبُ السماء عن الأرض

تصبح هذي البراري لنا

وهذي الغيوم الصغيرة

والأمهات وصوت الزرازير والزهر

كل اخضرار السهول يصير لنا

فكيف يمر علينا الغمام إذن

وهو يبكي من الحرب

كيف ؟

..

هل هذه الحرب تحمل أسماءنا

وتختار من تمزقهم في جوانحها

مثلما اخترنا الله للحب والأمنيات

..

لماذا يعيش الطغاة

وينشغل الأنبياء بأحزانهم في الصلاة؟

..

ومن يمنح الحرب إذنا لتدخل هذي البيوت

وتهدمها في الصباح علينا؟

..

ومن يا أبي سيسلم قاتلنا خوفنا

من حين أورق زهر البساتين في دارنا

كان يمد القذائف بالموت

ويعطي لها الحق في سلب أحلامنا؟

..

من حين كنت أراكض ديك البراري

لألمح صوتي هناك

على تلة تتعمشق ناي الرعاة

أتى ليقيم هنا بيننا

ويهدم أسوارنا وسناسل أوهامنا

وأماني العصافير في حقلها بالحياة

..

هل أنا طفل هذا الرماد

أم الوقت أضحى غريبا علينا

فصار الرماد طريقتنا في التوجس

والحب والقتل والنزف والالتفات؟

..

كم سألت عن الآه في دمع أم يغادر أبناءها دارهم

ويمشون للغيب في ضجة الذاهبين إلى الموت

ولا يرجعون إلى خبزهم في الصباح؟

..

ألم يكن الماء في بئرنا باردا

والطيور على بابه تنتشي بالرذاذ؟

هنا، قرب تنورنا كان جدي

يمر وفي صوته حُدبة من زمان مضى

لم يكن خائفا أو غريبا عن الخوف

كان يمشي ويمشي إلى صورة في مياه النهار

ويضحك

قال لي لا تخف من غرابة يومك

واذهب إلى النهر عند الصباح هناك

وكن مع يقينك

ستأتي الحياة إليك

ستحملها مثل طفل صغير

وتمضي إلى حيث تأتي الذئاب

فترقص معها

وتمشي كما جدك المستريب من الكلمات

..

تعال معي يا بني

سنحتفل الآن بالظل

بالتيه في أرضنا وهي تصحو مساء على قاتل

وتنام على أمل بالصلاة

أنا يا أبي .. قلت لك

ليست هنا غابة الملح

أو غابة الجرح

هنا نار قاتلنا المتعدد

أوهامه بالتوجس منا

فخذني بعيدا، سنرحل عن حربه

عن براميله

عن سماء يلونها بالدخان

ويقتل فيها الطيور

وخذني إلى البئر ثانية

لم أعد طفلك المتوجس من طعنة

أو رصاصة قاتله وهي تردي الزهور

..

فحين سأصعد كالخوف فوق الهواء

وأرى الله في عرشه جالسا

سأخبره بالدماء وما خلفته على الأرض

قتلى وأيام تنزف بالصاعدين إليه  

سأخبره بيباس زهور الأغاني 

سأحكي له كل شي هنا صار

أمي وقذلتها حين احترقنا جميعا

أصدقائي وهم يندهون عليه تعال وخذنا

لنخفي ملامحنا تحت ظلك

حنيني إلى غرفة الدرس

بيت الطيور على غصن زيتونة في الجبال

جوعي الشقي

وأنفاس أختي تقطعها الريح في القصف

جارتنا الميتة

أنا يا أبي

أنا حين أحلم بالكعك والشاي والأغنيات

..

لا تعاتب فمي أو لساني إذا ما تلعثم

فالله يعرف أني صغير

ويدرك كيف يكون الصغير القتيل ملاكا

..

سأخبره من رمى الموت فوق صغار الدجاج

ومن هدم القِنَ

من داس قافلة الحب في الحقل

من عاقب الأصدقاء بقطع أصابعهم في الزنازن

سوف أريه سيول الدموع

ونزف الأيامى

وموت النساء

وعكاز جدي المهشم في ركن منزلنا

..

لا تؤنب صغيرك وهو يخاطب هذا الاله الجميل

ويحكي له عن مواجع أمي

وفض بكارة أختي

وذبح أخي في الطريق إلى مخبز في حلب

واستمع إذا شئت لي أنت أيضا

فأنت معي صاعد للسماء

لكنهم سرقوا صوتك العفوي

وخلوك تركض في البر مع جثة

وخلوك تصعد في القهر والخوف

خلوك تنزف

حتى وجدناك تحمل أحزاننا

في الطريق إلى الله

كي تقول له .. لم يموتوا هنا في الطريق

ماتوا وهم  يلعبون الكرة

..

أعرف أنك لن تتألم حين تراني هناك

أمد يدي كي أقول له يا إلهي

يدي لم تطارد طيور الحديقة

ولم تسرق القمح من بيت جارتنا

لم أغب مرة عن دروسي

فقط، كنت أركض مع أصدقائي للنبع

نعبث مع ضوء هذي السهول

ونركض حتى تغيب السماء

ويبقى القمر

..

لماذا تغيب السماء

ويغيب الهواء

وتختنق الريح بالموت

سأخبره يا أبي ما رأيت

وماذا فعلنا

لكي يصبح الموت فضتنا في الطريق إليه

وأحكي له كيف غاب صديقي الملثم في الليل

ولما أتى وحده في الصباح

كان يسيل من الدم والدمع

كان ينادي عليك

تأخرت عني قليلا

أنا جائع، ليس في بيتنا طلقة أو غريب

تأخرت، هل يا إلهي من عادة الله

حين يرى الأنبياء، عنهم يغيب

سأسأله عن أصدقائي

وعن كل موت وصمت وليل رهيب

وعن طعنة أتلفت رئتي

ومساء يدمدم بالموت في جثتي

وأنين يطوق ليل النحيب

..

أنا، يا إلهي البعيد القريب

تمكنت من رؤية الغيم قبل صعود السماء

جلست على باب بيتي قليلا

رأيت أبي عائدا من صلاة العشاء

وقلت لأختي أعدي لي الهفوات، لأحلم بعد قليل

وأغفو مع الطير والأشقياء

فماذا سأفعل أكثر من أن أحبك

وأن أعتق الحلم من غفوتي

أطير إلى الحقل عندك حتى أراك

وأحكي الذي شاهدته ظلالي

وما صار في بيتنا من خراب

وما مزق الحلم في مقلتي

وما دفن القمح في طفلك العفوي

وما أشعل في روحه الارتباك 

..

لماذا إذن يا إلهي رأيت الدماء

ولم تأت كي تمسح الجرح عن  صدر أمي

وأعرف أن أبي الآن ينظر نحوي

ويطلب مني التوقف ولو لحظة

كي لا أقول الذي قتله في حماك

أنا طفلك المتلعثم هذا المساء

لكنني حين أطلقت ساقيّ للموت

كانت دمشق تنام على كتف قاسيون

وكان الطغاة يعضون أطفالها بالهلاك

..

سألقي على برداها قليلا من الحزن

وخبزا كثيرا، لأطعم أطفالها الجائعين  

وأسأل كيف سأرجع كي استظل بأشجارها

كيف، يا رب، بعد أن قتلتني القذائف

تحت سماها، سيقتلني في هواها الحنين؟


*أَتَمَرْأَ : فعل الجزم من أَتَمَرْأى …تَمَرْأى في المرْآة : نظرَ

الغلاف: A wounded Syrian boy cries after Russians bomb his neighborhood ( Oct.2016) Credit: Getty Images

يقول محدّثي :
لمّا تخرج الكلمة للعلن …فلا سلطة لك عليها …
كل يرميها بسهم عينه ..

 

ماهر حمصي

إبداع بلا رتوش
إشترك في القائمة البريدية