رحيل ” الثوري ” صاحب ” جمهورية الخوف “

نعى نقاد وأدباء ومفكرون الشاعر والأديب السوري “شوقي جمال البغدادي”، الذي وافته المنية يوم الأحد في العاصمة دمشق عن عُمر يناهز خمسة وتسعين عاماً. بعد معاناته مع المرض وبعد سنين طويلة قضاها في الأدب ونصرة القضايا الإنسانية في ظل تجاهل كامل من نظام أسد الأب والابن.


وُلد بغدادي في بانياس، المدينة السورية الواقعة على ساحل المتوسط، في 26 تموز/ يوليو 1928، وتدرّج في تحصيله العلمي بين مدارس اللاذقية وطرابلس في لبنان، قبل أن يكمل تعليمه الجامعي في دمشق متحصّلاً من جامعتها على إجازتين في واحدة في اللغة العربية وأُخرى في التربية عام 1951. وهو الذي ارتبط بدمشق في ما بعد راصداً مراحل تخريبها العمراني والسياسي وصولاً إلى مآسي العقد الأخير. 

جاءت مساهمته الأُولى في المشهد الثقافي السوري من خلال مشاركته في تأسيس “رابطة الكتاب السوريين” عام 1951، إلى جانب حنا مينة وحسيب ومواهب كيالي وصلاح دهني وفاتح المدرس وليان ديراني وشحادة الخوري وسعيد حورانية، قبل أن تحمل الرابطة لاحقاً اسم “اتحاد الكتّاب العرب” – وقبل أن يصير هذا الاتحاد بعد عقود جهازاً بيروقراطياً كسيحاً في خدمة الديكتاتوريات وأبعد ما يكون عن الكتابة والكتّاب. 

في عام 1954 وقّع أول إصداراته، وهي مجموعة قصصية بعنوان “حيّنا يبصق دماً” (سبقها عام  1952 إصدار قصصي مشترك بعنوان “درب إلى القمة”). وبعد ذلك بعام، أصدر مجموعته الشعرية  الأولى “أكثر من قلب واحد” (1955). ومنذ ذلك التاريخ، سيكون واحداً من صائغي السلاسة الوجدانية في المشهد الشعري السوري وأحد وجوه بلده الثقافية.

كان وراء تلك السلاسة، انجذابٌ سابق لكل ما هو اجتماعي، أو بالأحرى انشغالٌ بالقضايا الكُبرى التي لم يرَ فيها نقيضاً لذلك الموقف الشعري. ويغذّي هذا الانشغال كون عقد الخمسينيات كان متوهّجاً بالسياسة على المستويين العالمي والمحلّي. وهنا اصطدمَ الشاعر الماركسي الهوى، بجمهورية الوحدة السورية – المصرية، ليخوض إثر ذلك تجربة الاعتقال، التي وإن لم تتجاوز التسعة أشهر، إلا أنها تركت أثرها في كيانه، كما أن تجربة الوحدة بدورها أنبأت بما ينتظر البلاد في عقد الستينيات.

وفي هذه المرحلة أصدر بغدادي ديوانين: “لكل حبّ قصة” (1962)، و”أشعار لا تحبّ” (1968)، قبل أن يُسافر إلى الجزائر لمدة أربع سنوات، ويعود عام 1972. ومع هذه العودة، ستكون البلاد قد دخلت على المستوى السياسي مرحلة من الاستبداد لم تخرج منها إلى اليوم.

أفصح بغدادي، في العقود التالية، عن مشروعه الأدبي، ومن ضمنه الشعري، إذ أصدر مجموعات شعرية عديدة بينها: “بين الوسادة والعنق” (1974)، و”ليلى بلا عشاق” (1979)، و”قصص شعرية قصيرة جداً” (1981)، و”كم كل بستان” (1982)،  و”شيء يخص الروح” (1996)، و”البحث عن دمشق” (2002). إلى جانب حكايات شعرية للأطفال مثل “عصفور الجنة” (1982)، و”القمر على السطوح” (1984)، محاولاً في النقد والدراسات أيضاً: “قديم الشعر وجديده” (1986)، و”عودة الاستعمار: من الغزو الثقافي إلى حرب الخليج” (1992). كما واصل نشر المجموعات القصصية، ونشر رواية واحدة بعنوان “المسافرة” (1994).

لكن ما حدث معه في بلده سورية – التي نادى لها  بالديموقراطية وكان أحد أصواتها الأدبية – أن الحراك الثوري الذي تفجّر عام 2011 وصل إليه وقد تجاوز الثمانين، فانكفأ في منزله بعدما شاهد من إجرام الأسد وميليشياته فنوناً كثيرة وكيف دمرت البلد على يديهم .
كما عاين جهاراً الضغوط التي مورست على الكُتّاب والأدباء المعارضين، لكنه رغم ذلك قام بخطوة جريئة عندما شارك في دعم رابطة “الكتاب السوريين” التي انطلقت (2012) وكان عضواً فيها، حيث مثلت تياراً مناهضاً لما كان موجود سابقاً في عهد البعث.

وكان الأديب الكبير شاعراً سياسياً وأطلق على نفسه لقب “الثوري”، كما تعرض للاعتقال 1959 أثناء الوحدة في عهد الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وذلك بسبب الأنشطة السياسية المناهضة لما سماها (أنظمة القمع والمخابرات)، فقضى 9 شهور بسجن المزة قبل أن يتم بعدها الإفراج عنه، وبرغم ذلك واصل نشاطه السياسي والأدبي، في حين ألّف أواخر حياته ديوانه “جمهورية الخوف” عام 2020 والذي نشره في صحيفة السفير اللبنانية.

تحوّل الشاعر السياسي، بل والثوري كما كان يحبّ شعراء جيله وصف أنفسهم، إلى شاعر منطوٍ على صمتٍ مرير. وبانكفاء الشيخوخة نشر في دمشق قبل عام ديوانه الأخير، وهو على مشارف الخامسة والتسعين، تحت عنوان “بعد فوات الأوان“. 


كتبت ” رماح بوبو ” في ” بلا رتوش ” منذ سنتين : احتفاء بالحياة ..إلى صنوبرتنا الخضرا ” شوقي بغدادي ”


لأنك قلت لي أكثر من مرة : أريد منك ان ترثيني يارماح .
ولأنني لا أعترف برحيل الشّجر
هي قصيدتي التي كتبتها لك منذ عدة سنوات
أعيد نشرها في عيدك ليس رثاءً بالتأكيد
بل احتفاءً بالحياة
كل عام وأنت بخير صنوبرتنا الخضرا

آصديقي

وأنت تجر غابة الصنوبر صوبي

لا تلتفت حولك ولا إلى امام ،

أدر عقبيك

وابق !

حيث

كانت شآم.

طبطب على بردى

كشكش عصافير القصيدة عن تخوم الوحل

و تشاجر ماشئت مع صديقك الذي

لم يصعد بعد الى جوف القطار !

ابق هناك

بلل راحتيك شعراً

اسقٍ الياسمين

واسرح كعادة الدراويش في،

كذبة العهد الظليل

ابق هناك

فمن سيجبر قلب الصنوبر حين يكسره الحَداء

وتُعلّق على أغصانه بقج المراثي؟

ابق بعيداً

لا يشبهك هذا السّديم

فكفاي الملوثتان كما إخوتي

لن تغطيا عيني من براءة حلمك،

ووطني زحف بعيداً

تاركاً عاري ..

آخذاً معه التراب

ابق حيث أنت

ولك ان تجلس على كتف الحروف

و تتملّى بساتين الغمام

ثم تذكّر كيف نسي

درويش و مظفروفيروزمعاطفهم

على دفّة العطر

وانشغلوابالنرجس البلدي

ولك إن شئت

أن تتوه في الزمان

لحبِّك أدعو عليك بالهذيان

صدِّق أنّ ما تراه هلوسةً

كي تنطفئ حين تنطفئ

وعلى وجهك يظل من دمشق ندى،

ولتبق

إيماننا الناجي

إلى أن يصلي بنا طفل ! .


وكتب منذ شهور عديدة الشاعر ” حسان عزت ” : عرسي قصيدة.. إلى الكبير الحر شوقي بغدادي شاعر أمة


عرسي

عرسي مافاتْ

ولا عولمُ يَدْحَرني

يلتهمُ حدائقَ قلبي

ويدمّرُني او يُنهي جَسدي

وعزاءُ الرحلةِ  أنّ ربيعا يأتي

بعد القتلِ المرصودِ

لعرسٍ أبهى

 بالفلّ الشاميّ

ربيعاً مهما انتظرَ الشجرُ الغوطانيّ قيامَتهُ وتأخّر يأتي

فاللقياحيٌّ قيّومٌ

والشام هي الشامُ

ياما دَحَرَتْ غاصِبها

شباحينَ  وغدّارينَ

وظَلَمَة

وياما قتلتْ منْ تنّينٍ أفعى برؤوسٍ روسٍ وفراسينَ وغِيّا

يأتي العرسُ

ويأتي

فسلامُ الرّوح على ملتحفينَ بتربٍ فيها عُشّاقاً ناموا

وعُشّاقاً رحلوا في الأرضِ وهاموا عشقاً يَسعى ويُباهي تيهاً

وسلاماً للشعب الطالعِ للحريّة

أوْعَى

 ضحكَ التّينُ على الصبار

وشوك الصبار الوحشيّ

ضحك الصبّار الشاميّ الأحلى على جوزٍ يكسرُه الفرّاطونَ بمنساسِ الدّردارِ الأدْهى

ضحكَ سفرجلُ ضيعتِنا

على نَارنجِ الدارِ المرّ وثمارِ الصيفِ

فَغَصصنا بالطّعمِ النّفانِ

وعَرفنا أنّ وحامَ الخِصبِِ

بأصعبَ من موتٍ حتّى يأتي

الفلّ وطلعةُ طفلِ الحبّ الأبهى

زهراً لوزيّا

ويباهي عروسَ الحريّة

ياحرية هاتي

الشمس تعالي


يقول عنه الروائي “فواز حداد” في رثائه: “كان واحداً من أكثر الادباء تأثيراً في الحياة الأدبية العامة في سورية، شعرياً وأدبياً وسياسياً، مواقفه لم تتغير في جميع العهود، كان تقدمياً من دون إفراط ولا تفريط، وكان للراحل موقف من الثورة السورية عبّر عنه في غير مكان”.


وكتب الكاتب و المؤرخ و المصور ” سعد فنصة ” عن حادثتين شهيرتين .. إحداهما تخصه مع الشاعر الكبير الراحل..

الأولى :

في العام 1991 اجريت حوار عاصفا مع احد ابرز كتاب المسرح في ذلك الحين، رفضت نشره الصحيفة اللبنانية التي كنت اعمل بها، وغيرها، بكون الكاتب المشار اليه يرأس اتحاد الكتاب العرب، والحوار كان يتناول قضايا الثقافة النشر والكتاب، في ظل تمجيد القائد الملهم الأوحد والذي لا كتاب ولا كاتب ولا مكتوب قبله ولابعده .. الخ ، الذي حول اتحاد الكتاب العرب الى اتحاد مزرعة الاغنام على حد وصف الشاعر نزار قباني آنذاك في نص نشر في حينه، وهو ما ورد بالحرف في نص الحوار .

حَوْلٌ كامل بلا جدوى، وانا اسعى جاهدا لنشر هذا النص غير الاعتيادي، ثقيل الوقع على آذان اعلام التهريج والنفاق وترويج الضحالة، اديب واحد فقط كان يرأس القسم الثقافي في احدى المجلات الصادرة من المخيمات الفلسطينية المحيطة بدمشق، تجرأ على نشره دون اقتطاع جملة او كلمة واحدة.. كان هذا الاديب الشاعر … شوقي بغدادي ..رحمه الله.

الثانية حصلت في العام 1987 اذا لم تخُنِ الذاكرة :

فور عودة الشاعر الكبير من الجزائر الى دمشق استدعاه احد افرع الامن التي تمتلك اقبية متخصصة بالادب وقريض الشعر وقرائضه بعد مشاركته في مهرجان بالعاصمة، القى فيها قصيدة جريئة تحمل وراء كلماتها معانٍ ومغازٍ، كان لها على ما يبدو افرعا أمنية متخصصة لحل كلماتها المتقاطعة، مع وجوه حكم الاسد المتعددة، ليسأله المحقق المختص، عن معاني قصيدته بعد ساعات من التحقيق والانتظار المرعب .

ولعله الشاعر الوحيد الذي وقف آنذاك على منبر اجتماع واسع لاعضاء الاتحاد يكشف الوجه القبيح لسلطة الحكم المخابراتي القمعي المستند الى حكم الاسرة والقبيلة الطائفي والذي يتخفى وراء الشعارات الكبرى واودى بالبلاد والعباد الى الكارثة المحققة التي لازالت مستمرة الى اليوم بصورها الاكثر سوداوية وقهرا عبر التاريخ ..


يقول محدّثي :
لمّا تخرج الكلمة للعلن …فلا سلطة لك عليها …
كل يرميها بسهم عينه ..

 

ماهر حمصي

إبداع بلا رتوش
إشترك في القائمة البريدية