في الأيام المضطربة التي سبقت سقوط نظامه في ديسمبر 2024 ، بينما كانت أصوات الاشتباكات تقترب من أسوار دمشق، أشرف رأس السوري البائد بشار أسد على عملية سرية لنقل ثروة مالية ، بعيدا عن متناول خصومه.
تحت جنح الظلام، وفي مطارات تخضع لحراسة مشددة، حملت طائرة خاصة أموالًا نقدية ووثائق حساسة إلى الإمارات العربية المتحدة، في محاولة يائسة للحفاظ على إرث مالي نهبه وجمعه بشار أسد على مدى عقدين من الحكم الاستبدادي .
يعتمد هذا التقرير على تحقيق استقصائي أجرته وكالة رويترز، إلى جانب تحليل إضافي، ليكشف تفاصيل هذه العملية التي قادها يسار إبراهيم، المستشار الاقتصادي الأبرز لبشار أسد . كان إبراهيم مهندس شبكة معقدة من الشركات التي سيطرت على قطاعات حيوية في سوريا، من الاتصالات إلى العقارات، وغالبًا ما عملت كواجهة لبشار نفسه، وفقًا لمصادر مطلعة ووثائق رسمية.
على مدار 48 ساعة، نفذت طائرة من طراز إمبراير ليجاسي 600، مسجلة في غامبيا تحت رقم C5-SKY، أربع رحلات محمومة بين سوريا وأبوظبي. تضمنت الشحنات أكياسًا نقدية تحتوي على ما لا يقل عن 500 ألف دولار، وأجهزة إلكترونية محملة بمعلومات عن الشبكة التجارية التي أدارها بشار وشركاؤه. وفي الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024 ، غادرت الطائرة الأخيرة من قاعدة حميميم العسكرية الروسية في اللاذقية، بالتزامن مع فرار بشار إلى روسيا، حيث حصل على اللجوء .
من دمشق إلى أبوظبي: عملية تحت الضغط
بدأت العملية يوم 6 ديسمبر، مع تقدم فصائل المعارضة المسلحة بقيادة جماعة هيئة تحرير الشام نحو العاصمة. في مطار دمشق الدولي، تحول قسم كبار الشخصيات إلى مسرح لعملية سرية. تحت أضواء خافتة، انتشر أفراد من المخابرات الجوية السورية، وهي أداة قمع سياسي بارزة في عهد بشار الفار ، لتأمين المنطقة. وصلت سيارات سوداء ذات نوافذ مظللة، تابعة للحرس الجمهوري، وهي قوة نخبة لا تتلقى الأوامر إلا من أسد أو ابن عمه اللواء طلال مخلوف.

“لم ترَ هذه الطائرة“، هكذا أمَر العميد غدير علي، رئيس أمن المطار، موظفي المطار، وفقًا لمحمد قيروط، رئيس العمليات الأرضية في الخطوط الجوية السورية. كانت الطائرة تهبط في مطار البطين التنفيذي في أبوظبي، وهو ملاذ آمن للشخصيات البارزة بفضل سريته العالية. حملت الرحلتان الأوليتان أفرادًا من القصر الرئاسي، بما في ذلك أقارب بشار أسد ، إلى جانب أموال نقدية وأعمال فنية. أما الرحلة الثالثة، في 7 ديسمبر، فقد شملت أقراصًا صلبة تحتوي على سجلات مالية وتفاصيل ملكية شركات، توثق إمبراطورية أسد التجارية.
الرحلة الأخيرة: ملاذ روسي
بحلول 8 ديسمبر/كانون الأول 2024 ، وصلت فصائل المعارضة المسلحة إلى دمشق، مما أجبر بشار أسد على الفرار إلى اللاذقية تحت حماية القوات الروسية.
توقف مطار دمشق عن العمل، فتحولت قاعدة حميميم الروسية إلى نقطة الانطلاق الأخيرة. هناك، صعد أحمد خليل خليل، وهو شريك مقرب لإبراهيم، على متن الطائرة حاملًا 500 ألف دولار نقدًا، سُحبت من حساب مرتبط بشركة البرج للاستثمارات، التي يملك إبراهيم نصف أسهمها.

أكدت صورة ساتلية التقطتها شركة بلانيت لابس وجود الطائرة على مدرج حميميم، مما يعزز روايات مصادر مطلعة أكدت أنها كانت الطائرة الخاصة الوحيدة التي عملت في سوريا خلال تلك الفترة.
شبكة التمويل والتهريب : إرث من السيطرة
لم تكن ثروة بشار أسد نتاج حكمه الإجرامي فحسب، بل نتيجة شبكة اقتصادية معقدة بناها هو وشركاؤه، مثل يسار إبراهيم، على مدى عقود. منذ بداية الألفية، سيطرت هذه الشبكة على قطاعات مثل الاتصالات والطاقة، مستفيدة من العقوبات الغربية التي فرضت على أسد بعد قمعه لاحتجاجات 2011. وثائق حساسة، مثل تلك التي نُقلت على متن الطائرة، كشفت عن تفاصيل ملكية الشركات وتحويلات مالية إلى حسابات خارجية، وفقًا لمصادر قريبة من العملية.
استأجر إبراهيم الطائرة من رجل الأعمال اللبناني محمد وهبي، الذي يدير شركة فلاينغ إيرلاين FZCO في دبي. نفى وهبي تورطه المباشر، مدعيًا أنه استأجر الطائرة من وسيط لم يكشف عنه. تظهر سجلات غامبيا أن الطائرة مملوكة جزئيًا لأفراد مرتبطين بوهبي، مما يثير تساؤلات حول شبكة التمويل لهذه العملية
تحديات المستقبل: استعادة الأصول المهوبة
تسعى الحكومة السورية الجديدة، بقيادة الرئيس أحمد الشرع، إلى استرداد الأموال المنهوبة لدعم اقتصاد منهار تحت وطأة العقوبات ونقص العملة.
هناك تحقيقات جارية لتحديد وجهة هذه الأموال، لكن تعقيد الشبكات التجارية التي أدارها بشار أسد يشكل عقبة كبيرة.
“هذه الأصول ليست مجرد أموال، بل جزء من إرث الفساد الذي أضر بالشعب السوري لعقود”، يقول محلل اقتصادي سوري طلب عدم الكشف عن هويته. ويضيف أن استرداد هذه الأموال قد يوفر دفعة حيوية لإعادة إعمار سوريا، لكنه يتطلب تعاونًا دوليًا واسعًا.
استعادة الأصول المنهوبة لن تكون مجرد معركة قانونية، بل اختبار لقدرة الحكومة الجديدة على إعادة بناء الثقة في اقتصاد منهك. مع استمرار التحقيقات، تبقى الأسئلة حول مصير ثروة الشعب المنهوبة معلقة، مثل طائرة تختفي في سماء الليل.