هذا ما وقع بتمام الليلة ...
لم يكن هذا حلما أبدا، فلقد قرصتُ خدّي غير مرة ومرة بوساطة السبابة والإبهام، لكنني لم أفزّ بل واصلت المشي في شارع حقيقي جدا.
بباب العمارة كان الحارس قد تحول إلى عكاز رماني برشقة صباح الخير ودخان رخيص.
اختفت السيارات من الشارع الطويل وحلت مكانها عكازات تمشي وتطلق صوتا يشبه صوت العفطة. في المقهى المعلقة بصحن المدينة، لم أجد جمال زهران ولا العم رضا ولا جوق المغامرين الأفذاذ، بل وجدت الكثير من العكاكيز الكبيرة والصغيرة، وقد توزّعت على كل بطن المقهى. ذهبت إلى حانة الشرق علّني أجد بقايا من بشر أتحدث إليهم، لكن الأمر كان شبيها بما شفته بمقهى زكي، حيث الموائد منتشية سكرى مسورة بخشب يهذي.
سألت عن الولد عبدالله فأجابني عكّاز غليظ قلبه إنّ صاحبك قد مات قبل عشر دقائق.
اخترت من الحانة كرسيّا عاليا يطل على ساحة الاحتفالات، فكان المنظر هرجا مرجا، وكانت الأخشاب ترقص وتتباوس وتتحاضن وترفع شارات نصر لذيذ.
قبل انفناء كأس العرق الخامسة، انزرعت على طاولتي صديقتي المعتقة عبير التي صارت عكازة على جيدها حبلٌ من ورق.
كنت متأكدا من أن ما أراه كان حقيقيا، والآن أراني أنصت تالفا متكسّرا إلى صوت عكازة عظيمة وهي تغني “هل رأى الحبُّ سكارى مثلنا”.
لاحظت عبير أنني على قلق أجلس. قلت لها إن الجو بارد وماطر وأفكر بوسيلة أركبها كي تعيدني إلى بيتي. مسكتني من أصابعي الحارة وأشارت نحو مائدة لصيقة استوطنها عكاز أطول مني. قالت هذا هو صاحب الحمار المربوط بباب الحانة، وهو من سيوصلك إلى دارك وعيالك، فلا تحزن ولا تهن ولا تتعجب وأنت المشّاء والرائي.
من غرائب تلك الليلة المنعشة هي أن مارلين مونرو قد نزلت من اللوحة وجلست خلف مائدة في الجوار. حيث تشاركتْ هي وشرطي ضخم كأسا واحدة.
ساعة لعلع الرصاص في الخارج، قامت عبير على حيلها لترى ما الذي يحدث هناك، وعندما استقرت على كرسيّها ثانية قالت بصوت مخنوق، لقد قتلوا حمار الحانة الجميل.
في الطريق الطويل صوب بيتي، سمعت الكثير من العواء والمواء والزقزقة والصياح، وثمة عكاز رائع استوقفني بودّ وقرأ عليَّ بيت شعر رحيم:
بمَ التعلّلُ لا أهلٌ ولا وطنُ
ولا نديمٌ ولا كأسٌ ولا سكنُ