2016: عام الزلزال السياسي
في ليلة الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني، تجمَّع العالم أمام شاشات التلفزيون من أجل متابعة الأخبار. وفي الساعات الأولى من التاسع من نوفمبر/تشرين الثاني، تبدَّى لنا فجراً أنَّ ما كنَّا نشاهده لم تعد أخباراً، بل تاريخاً.
ليس بإمكان الكثيرين أن يستذكروا شعوراً بهذا الجزع المملوء بالشك منذ أحداث 11 سبتمبر/أيلول، وبعد أن صوَّتت ولاية فلوريدا لصالح ترامب، وجدتُ نفسي محاطاً بهاجسٍ مخيفٍ. رأيتُ تلاميذ المدارس يتأمَّلون اختبار تاريخٍ في المستقبل، ليجدوا سؤالاً سيكون متوقَّعاً ومألوفاً لجيلهم كما كان سؤالٌ مشابه حول جذور الحرب العالمية الثانية متوقَّعاً ومألوفاً لجيلي عندما كنّا طلبة، وسيكون كالتالي: “حدِّد وحلِّل أوجه الشبه بين ثلاثينات القرن العشرين (1930) والعقد الثاني من القرن الحادي والعشرين (2010)”.
لا أحد يعرف حتى الآن كيف سيُتذكَّر عام 2016، وإذا ثبُت أنَّ بوريس جونسون (وزير الخارجية البريطاني) كان محقاً، سنتساءل لماذا انتاب القلق أي شخص في أي وقتٍ مضى حول وصول “رجلٍ ليبراليٍ آخر من نيويورك” إلى البيت الأبيض.
ومع ذلك، وبحسب تقرير نشرته صحيفة الغارديان البريطانية، إذا كان على التلاميد أن يجيبوا عن هذا السؤال في أي يومٍ من الأيام، فربما يكون من الجيد أن يبدأوا بوضع ملاحظة تشير إلى أنَّنا كنَّا تماماً بنفس التلكؤ الذي كان عليه أسلافنا في الاعتراف بوجود كارثةٍ محدقةٍ.
كاميرون واتفاق السلام
[dt_fancy_image image_id=”19963″ onclick=”lightbox” width=”” align=”center”]عندما عاد ديفيد كاميرون من بروكسل في فبراير/شباط، مشهراً في يده اتفاق “السلام في وقتنا”، (إشارة إلى خطاب شهير لرئيس الوزراء البريطاني السابق نيفيل تشامبرلين بعد توقيع اتفاقية ميونيخ مع هتلر)، الذي يتضمن شروط عضوية الاتحاد الأوروبي التي أُعيد التفاوض حولها – هل يستطيع أي شخص أن يتذكر الآن ماذا كانت هذه الشروط؟
بدا الأمر كما لو كان الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكست) لم يبشَّر بشيءٍ أسوأ من المشهد المسلِّي (المثير للسخرية) للحكومة وهي تمزَّق نفسها إرباً (إشارة إلى الانقسام بين مؤيدي القاء الاتحاد الأوروبي ورافضيه داخل الحكومة).
لم يتفاجأ أحد لرؤية إيان دنكان سميث (وزير العمل والتقاعد السابق)، وكريس غرايلينغ (وزير الدولة السابق للمواصلات)، وجون وايتينغديل (وزير الدولة السابق للثقافة والإعلام والرياضة)، وتيريزا فيليرز (وزيرة الدولة السابقة لشؤون أيرلندا الشمالية ) في الجانب المؤيد للخروج من الاتحاد الأوروبي، لكن انشقاق مايكل غوف (وزير العدل السابق) كان مفاجأة مذهلة. وعندما تبعه جونسون في اليوم التالي، “بعد قدر كبير من الحسرة”، لم ينطلِ على أحدٍ إقدامه على التظاهر بأنَّه كان من دعاة الخروج من الاتحاد الأوروبي. وكما صاغها الكاتب الصحفي نيك كوهين بعد التصويت: “هناك كاذبون، ومن ثَمَّ هناك بوريس”.
ودفاعاً عن جونسون، لم يكن هو الشخص الوحيد الذي يستغل أوروبا من أجل طموحٍ شخصيٍ. فلم تمثِّل المبادئ جزءاً كبيراً من دوافع كاميرون في دعوته للاستفتاء، وكان كل شيءٍ متعلِّقاً بتحييد التهديد الذي يمثِّله حزب الاستقلال (يميني متطرف) وإسكات المعارضة. فقد كانت أوروبا مصدر إزعاجٍ كبيرٍ لقادة حزب المحافظين على مدار 40 عاماً.
وبالعودة إلى الوراء لعام 2006 وإلقاء كاميرون باللائمة على “الحديث أكثر من اللازم عن أوروبا” في كوْنه السبب في تراجع شعبية حزبه (وأضاف كاميرون: “بدلاً من الحديث عن الأمور التي يهتم بها معظم الناس، تحدَّثنا عن الأمور التي تهمَّنا نحن أكثر”). وبحلول الوقت الذي بدأت فيه الحملة، لم تترك التكهُّنات المحمومة حول تأثيرات ذلك على المحافظين مجالاً للكثير من التفكير بشأن الضرر الذي قد تلحقه بالدولة.
تصوَّرت حملة البقاء أنَّ بإمكانها مواجهة ذلك من خلال تكرار مجموعة من التحذيرات المرعبة. فقد حذَّر كل شخص، بدءاً من مارك كارني، محافظ بنك إنكلترا، وريتشارد برانسون، موفد اتحاد النقابات العمالية إلى صندوق النقد الدولي، من الكارثة الاقتصادية.
وبدا بجلاء أنَّ مثل هذا الإجماع القوي مقنِعاً لأنصار البقاء داخل الاتحاد لدرجة أنَّهم رفضوا الرضوخ للناس عندما أخبروهم بأنَّهم قد ضاقوا ذرعاً من مشروع التخويف هذا، ولجأوا (حملة البقاء) إلى الرئيس أوباما، وهو ما أعطى فقط أنصار الخروج دَفعة جديدة في الاستفتاء.
وأظهر نايجل فاراج، أحد قادة حملة الخروج، الشماتة وقال بسعادة: “أحضروا أوباما ثانيةً!”. وأضاف: “دعونا نحظى بزيارةٍ أخرى!”. كان فاراج، زعيم حزب الاستقلال آنذاك، أكثر اتساقاً من معظم السياسيين الآخرين في نظر المزاج الشعبي الجديد الضجر والمناهض للنخبة؛ وعندما أخبرنا غوف بأنَّ “شعب هذه البلاد اكتفى من الخبراء”، تهكَّم عليه الليبراليون سريعاً، وقِلَّةٌ منهم فقط رأوا أنَّه قد يكون، في الواقع، على حقٍ.
وفي عامٍ دخلت فيه كلمة “ما بعد الحقيقة Post-truth”، (تعني الظروف التي في ظلِّها تكون الحقائق الموضوعية أقل تأثيراً في تشكيل الرأي العام من مناشدة العاطفة والمعتقدات الشخصية)، إلى قاموس أكسفورد، وساعدت كذلك الأخبار المزيفة في الفوز بالانتخابات الرئاسية الأميركية، كانت الحقائق في أحسن الأحوال لا قيمة لها وعبئاً في أسوئها.
ومرةٌ أخرى، كان الكثيرون منَّا بطيئين في إدراك الآثار المترتبة على هذا النموذج الجديد. فقد أخبرت جماعات التركيز قادة حملة البقاء بأنَّ المصوِّتين المتردِّدين سيقتنعون من خلال الحقائق الواضحة – وسيتّبِعون كذلك وجهات نظرهم. وتداولت حملة البقاء البيانات بطريقة رسمية كما ينبغي (متكلِّفة) – ادّعى جورج أوزبورن الخروج من الاتحاد الأوروبي ستكون تكلِّفته 4300 جنيه إسترليني (5297 دولاراً) لكل أسرة، غير مدركين على ما يبدو أنَّ لا أحد يحب أن يفكر، بغض النظر عن اعترافه بذلك، وأنَّ ما يملي عليهم – أي المصوِّتين – قراراتهم هو المزيد من المراوغة والعاطفة.
وفي ظل المزاج المحموم الذي شهده 2016، لم يكن تحذير حملة البقاء من أنَّكم، البريطانيون، ستخسرون “تمويلاً أساسياً من الاتحاد الأوروبي للزراعة، والبحث العلمي والطبي، ولبرامج تؤثِّر على مجتمعاتكم المحلية” له تأثير مضاهٍ لتعهُّد حملة الخروج بـ”استعادة السيطرة على بريطانيا”.
في لحظةٍ عابرة، بدت الحملة في وضع الاحتفال تقريباً، حين تبادل بوب غيدولف، مؤيد للبقاء، ونايجل فاراج، مؤيد للخروج، الإهانات من مهرجانات دعاية متنافسة عائمة فوق نهر التايمز. وكان جوي إيسيكس، مقدم برامج تلفزيوني، على متن قارب حملة الخروج، بينما كانت الأغنية الستينية “The In Crowd” التي تنتمي إلى موسيقى “السول” تصدح من قارب حملة البقاء.
الاستفتاء جعل كل الناس يتحدّثون، ومن المحتمل أن المتفائلين أخطأوا الظن بأنَّ هذا الحديث الوطني العام كان لحظة توحُّد. لكن هذا المزاج تغيَّر قبل 7 أيامٍ من التصويت. فقد كشف حزب الاستقلال عن ملصقه سيئ السمعة “نقطة التحوُّل Breaking Point”، وهو صورةٌ طبق الأصل تقريباً من لقطات أحد أفلام الدعاية النازية؛ وبعد ساعاتٍ، أُطلِق النار على شابة لها توجُّهات مثالية ونائبة برلمانية مؤيدة للبقاء داخل الاتحاد الأوروبي عن حزب العمال، وطُعِنت حتى الموت في الشارع في دائرتها الانتخابية بواسطة أحد المتعاطفين مع النازية وهو يصيح “بريطانيا أولاً”.
وحتى فاراج اعترف سراً بأنَّ مقتل جو كوكس، النائبة التي قُتِلت، سيقضي على فرص حملة الخروج، واعتقد الليبراليون، رغم صدمتهم العميقة، أنَّ مثل هذا القبح البشع سينجح في إعادة البلاد إلى رشدها. ووافقتهم كل استطلاعات الرأي في ذلك.
كانوا مخطئين. ففي الـ23 من يونيو/حزيران، اختار 52% من البريطانيين بدلاً عن ذلك التصويت لصالح الفوضى؛ وبحلول صباح اليوم التالي، كان رئيس الوزراء قد استقال، وحتى جونسون وغوف بديا متفاجئين للغاية. وخلال أيام، سيدمِّران بعضهما الآخر في حمام دمٍ شكسبيري من أجل خلافة كاميرون في رئاسة الوزراء. وبعد أن أطاح سوء فهم كلمات أندريا ليدسوم – عن أنَّ الأمومة تؤهِّلها للمنصب – بها من السباق، أصبحت تيريزا ماي هي المرشَّحة الوحيدة الباقية لخلافة كاميرون، ومن ثمَّ أصبحت رئيسة وزرائنا الجديدة.
سباق غير مهذب
لكن إذا كان السباق على قيادة المحافظين غير مهذَّب، فالنواب العمَّاليون يمكنهم فقط أن يحسدوهم على ذلك. فقد استقال أكثر من 60 عضواً من أعضاء حكومة الظل مدفوعين باستيائهم من تقاعس جيريمي كوربن، زعيم حزب العمال وأحد قادة حركة البقاء، أثناء حملة الاستفتاء، وبعد أيام صوَّت 172 عضواً عمالياً بحجب الثقة عن زعيمهم.
ورد الكوربنيون (أنصار كوربن) بسيلٍ من الإهانات على الإنترنت، الكثير منها عنيف ومناهض للنساء، ودخلت أنجيلا إيغل في تحدٍّ على رئاسة الحزب أملاً في “سياسات ألطف وأقل وطئة”. وبعد صيفٍ ملتهبٍ من المعارك في ساحات المحاكم، ومزاعم حول وجود مدسوسين من المكتب الخامس (المخابرات الحربية)، ومؤتمرات كوربن التي كانت تشبه حفلات النجوم، والخلافات حول رسوم الـ25 جنيهاً إسترلينياً (30.7 دولار) اللازمة للتصويت، أُعِيد انتخاب كوربن رسمياً زعيماً لحزب العمال، واختفى على الفور من الساحة مجدداً.
سيختلف المؤرِّخون على الأرجح إلى الأبد حول سبب تصويتنا للخروج من الاتحاد الأوروبي، لكن لا أحد بإمكانه القول إنَّ الهجرة لعبت دوراً بسيطاً في ذلك. فالارتفاع بنسبة 58% في معدل جرائم الكراهية في أعقاب الاستفتاء يؤكِّد فقط ما أخبرتنا به النتائج فعلاً: تحوَّل تعاطفنا مع المهاجرين إلى عداءٍ مخيفٍ في ظل تصاعد الأزمة في أوروبا القارية (بريطانيا عبارة عن جزر منعزلة عن أوروبا). فالمجر أعلنت حالة الطوارئ في أنحاء البلاد، وإيطاليا حلَّت محل اليونان كوجهةٍ مختارةٍ لمهربي البشر، مع نحو 180 ألف شخص وصلوا إلى شواطئها هذا العام. وتضاءلت احتمالات الغرق أثناء عبور البحر المتوسط من شخص لكل 269، إلى شخص لكل 88 فقط؛ لكن التعاطف اختفى لأنَّ الأزمة أصبحت متشابكة للغاية في أذهان العامة في ظل هجمات الإرهاب الإسلامي التي تعصف بالقارة.
فقد أُفيِد بأنَّ 7 من أصل 9 جهاديين قاموا بالهجوم على باريس أواخر العام الماضي وقتلوا 130 شخصاً، كانوا قد تخفَّوا كلاجئين سوريين. وفي مارس/آذار، أصبحت بروكسل الهدف التالي حين قتلت التفجيرات في المطار ومحطة قطار الأنفاق أكثر من 30 شخصاً وجرحت 300 آخرين.
لكن يوليو/تمور أصبح الشهر الأكثر دموية: فتحوَّلت احتفالات يوم الباستيل في ليلةٍ منعشةٍ في نيس إلى مذبحةٍ عندما قاد رجلٌ تونسيٌ شاحنةً في قلب الحشود، ما أدَّى إلى قتل 86 شخصاً وجرح أكثر من 400. وبعد ذلك بـ12 يوماً، أجبر جهاديان يبلغان من العمر 19 عاماً قِسَّاً يبلغ من العمر 85 عاماً على الانحناء على مذبح كنيسته في نورماندي وذبحاه.
وفي ألمانيا، ركض طالب لجوءٍ أفغاني بفأسٍ محاولاً قتل الناس على متن أحد القطارات، وفجَّر لاجئٌ سوريٌ حانةً للخمور، وانهال آخر على زميلٍ له بالساطور حتى الموت، وخرج مراهقٌ ألماني من أصلٍ إيراني مسلحاً في حالة هياج، وقتل 9 أشخاص.
ومؤخَّراً، قُتِل طالب لجوء تونسي على يد الشرطة الإيطالية بعد التعرُّف على أنَّه كان الرجل الذي قاد الشحنة في سوق عيد الميلاد في برلين، وقتل على الأقل 12 شخصاً.
إجراءات غريبة دون اعتراض
وصدرت إجراءات ما كانت لتخطر على البال، حتى وقتٍ قريبٍ، دون اعتراضٍ جماهيري كبير. فقد أصدرت الدنمارك قانوناً يبيح الاستيلاء على المجوهرات والمبالغ النقدية من طالبي اللجوء السياسي، من أجل دفع نفقات الرعاية الخاصة بهم، ولم ترتدع الدنمارك من تحذير الأمم المتحدة ضد إذكاء جذوة “الخوف ورهاب الأجانب”.
كما فرضت المنتجعات الساحلية الفرنسية حظراً على ارتداء البوركيني، ما أدى إلى مشهد سريالي لرجال شرطة مسلحين يأمرون امرأةً مسلمةً على الشاطئ بخلع ملابسها، وقد أُلغِي هذا القرار، ليس بسبب اشمئزاز الرأي العام من هذا المنظر (ذلك أنَّ استطلاعات الرأي تشير إلى أنَّ ثلثي الفرنسيين مؤيدون لهذا الحظر)، وإنَّما عن طريق حكم محكمة.
وعندما هُدِم معسكر المهاجرين في كاليه، وافقت بريطانيا على استقبال القاصرين الموجودين دون ذويهم، فنتج عن ذلك موجةً من الغضب عبَّرت عنها الصحف الشعبية بسبب استقبال من لا “يبدو” عليهم أنهم أقل من 18 عاماً، واقترح أحد نواب المعارضة المحافظين إخضاع القادمين إلى فحص أسنان، لتحديد ما إذا كانوا يستحقون العطف البريطاني أم لا.
أكبر ثلاث جنسيات تدفقت على أوروبا كانت تفرُّ من نزاعاتٍ سبَّبتها أحداثٌ وقعت قبل 2016 بوقتٍ طويلٍ، ولم تكن مقتصرةً على حدود هذه البلاد فحسب. فبعد 15 عاماً من سعي التحالف للانتقام من أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، لا زالت أفغانستان والعراق أسرى فوضى دموية، لكنَّ ما روع العالم هذا العام كان مأساة سوريا. فبعد 5 سنواتٍ من الحرب الأهلية، لا زال الرئيس بشار الأسد عصياً على الهزيمة، ولا زال المجتمع الدولي عاجزاً، غير قادرٍ على تحديد أي جانبٍ ينحاز له، إن كان سوف ينحاز أصلاً.
لم تكبح الدبلوماسية جماح فلاديمير بوتين، الذي كان في غاية السعادة لملء الفجوة. وتبدد أي أملٍ في أن تكون الضربات الجوية الروسية على سورياً حكراً على داعش، بعد أن أخضعت موسكو شرق حلب إلى نفس القصف الوحشي الذي أحال غروزني إلى أنقاض ذات يوم. فقد انهمرت القنابل العنقودية والبراميل المتفجِّرة على بيوت المدنيين والمستشفيات، حتى قافلة المساعدة التابعة للأمم المتحدة كذلك، فحوَّلت حلب إلى ما يشبه لوحة قصف غارنيكا، قرية إسبانية دمَّرها الفاشيون قبل نحو 80 عاماً وتُعتَبَر أحد مآسي القرن العشرين، وقتلت مدنيين أكثر مما قتلت داعش، وذلك بحسب واحدةٍ من المنظمات غير الحكومية التي تراقب الحرب (الشبكة السورية لحقوق الإنسان المفوَّضة من قِبَل الأمم المتحدة).
أصيب العالم بالصدمة من صورة صبي في الخامسة مصدومٍ بسبب إحدى القنابل بعد سحبه من تحت حطام منزله، محاطاً بالغبار الرمادي، ذاهل العينين، لكنَّه مع ذلك ثابتٌ لا يتحرك. وقال أحد سكان حلب في قنوطٍ: “كل العالم خذلنا. المدينة تموت. تموت بسرعةٍ من القصف، وببطءٍ من الجوع والخوف وتقدُّم نظام الأسد”. ومع قرب نهاية العام، أصبح سقوط حلب في يد الأسد حتمياً، ومن بين أنقاض واحدةٍ من أقدم المدن، صعد الكرملين مستعيداً مكانته كقوةٍ عظمى.
ويمكن لبوتين، الذي كان يوماً شخصاً يثير الاستخفاف نوعاً ما، الذي سخر منه الغرب بسبب ولعه بالتقاط صورٍ له وهو عار الجذع، يمكن له على نحوٍ معقولٍ أن يُعدَّ أكثر قادة العالم تأثيراً في 2016. فللمرة الأولى في التاريخ، اتُّهم رئيسٌ روسي بإطلاق حربٍ إلكترونية للتأثير على نتائج انتخابات الرئاسة في الولايات المتحدة.
أنكر بوتين الاتهام الذي وجَّهته له وكالة الاستخبارات المركزية، لكن ليس هناك سوى قِلّةٍ من الناس في واشنطن الذين ما زالوا يشكُّون أنَّه كان وراء القراصنة الروس الذين اخترقوا أنظمة البريد الإلكتروني للَّجنة الوطنية للحزب الديمقراطي، وحساب البريد الإلكتروني الخاص برئيس حملة هيلاري كلينتون، وكشفوا الستار عن مواد استُخدمت لإحراج المرشَّحة الرئاسية وتقويضها. حتى أنَّ منافسها، دونالد ترامب، حثَّ موسكو على اختراق حسابها، قائلاً في مؤتمرٍ صحفي في يوليو/تموز: “أيُّها الروس، إن كنتم تستمعون إليَّ، أتمنَّى أن تستطيعوا إيجاد رسائل البريد الإلكتروني الـ30 ألفاً المفقودة”.
وعبَّر أحد معاوني كلينتون عن ذهوله قائلاً: “لا بدّ أنَّ هذه هي المرة الأولى التي يُشجِّع فيها مرشَّحٌ رئاسيٌ بارزٌ قوةً خارجيةً على التجسُّس على خصمه السياسي”.
لكنَّ هذا لم يكن سوى واحدٍ من الأشياء العديدة التي حدثت للمرة الأولى في انتخابات رئاسة الولايات المتحدة، التي لم يرَ العالم مثلها. حين دخل دونالد ترامب السباق الرئاسي، لم يتوقع سوى القليلين أنَّ هذا الرجل، الذي كان نجماً لعروض تلفزيون الواقع، وأحد ملوك العقارات، والذي في سجله 4 حالات إفلاسٍ تجارية، وحالتَي طلاق، أن يملك فرصةً في مواجهة أكثر المرشَّحين الديمقراطيين كفاءةً في التاريخ.
الرئاسة الأميركية
كان هذا العام ليصير العام الذي انتخبت فيه أميركا سيدةً لرئاسة الجمهورية للمرَّة الأولى، وليس أول رئيسٍ أميركيٍ لم يشغل أي منصبٍ عامٍ من قبل. ففي يناير/كانون الثاني، ضحك الخبراء مستهزئين حين قال ترامب في مؤتمرٍ لحملته الانتخابية: “حتى وإن وقفت في الجادة الخامسة (وهي من أشهر شوارع نيويورك الرئيسية)، وأطلقت النار على أحدهم، فلن أخسر أي أصواتٍ انتخابيةٍ”. هل كان هذا الرجل يمزح؟ كلما اتَّخذ خطوةً عجيبةً، قبل انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني، سخر منه الخبراء وقالوا إنه يبتعد أكثر عن الفوز بالرئاسة.
يريد بناء جدار على حدود المكسيك ليمنع دخول المغتصبين اللاتين؟ كانت هذه الفكرة سخيفةٌ تماماً. يريد معاقبة النساء اللاتي يجهضن الحمل؟ حتى رافضو الإجهاض شعروا بالفزع من هذا القول. كان من المفترض للمؤتمر الجمهوري الذي انعقد في يوليو/تموز أن يُضفي الاحترام على حملة ترامب المستقلة، لكنَّه تحول لمهزلةٍ بعدما ألقت زوجته ميلانيا خطاباً مقتبساً نصاً من خطابٍ ألقته ميشيل أوباما منذ 8 أعوام.
وساءت الأمور حين أطلق ترامب هجوماً عبر موقع تويتر على الأبوين المسلمين لجندي أميركي قُتل في العراق. وفي الأسبوع التالي، اقترح أنَّ رئاسة كلينتون يمكن التعامل معها من خلال “أشخاص التعديل الثاني للدستور”، وهو ما يعني أنهم سيغتالونها.
وحين ظهر تسجيلٌ يتباهى فيه ترامب عام 2005 باعتدائه على النساء جنسياً، وإفلاته من العقوبة لأنه مشهور، انتقم ترامب بأن دعا إلى مناظرته الرئاسية التالية، ثلاث نساءٍ قد اتهمن بيل كلينتون بسلوكياتٍ جنسيةٍ غير ملائمةٍ. وسخر ترامب من الفيديو واصفاً إيَّاه بكونه “مزاحاً” لا أكثر، وأظهر ترامب موهبته غير المسبوقة في سياسة “ما بعد الحقيقة”، مؤكداً أنَّ “لا أحد يحترم النساء أكثر مني”.
وأعلن أيضاً عن نيته في سَجن كلينتون إذا فاز. حتى سكرتير الأمن الوطني السابق في عهد جورج دبليو بوش أعلن عن فزعه قائلاً: “يشبه هذا ما نقرأه عن الديكتاتوريين التافهين في سائر أنحاء العالم”.
واتهم ترامب النساء الاثنتي عشر، اللاتي اتهمنه بارتكاب ما قاله في التسجيل، بكونهن “كاذبات”. وقال ساخراً إنَّ بعضاً منهن لسن جميلات بما يكفي ليعتدي عليهم جنسياً. وسخر من إحداهن قائلاً: “انظر لشكلها”. وسخر من أُخرى قائلاً: “لن تكون هذه اختياري الأول”.
وفي الأسابيع الأخيرة من حملته، تخلى ترامب عما تبقى من حذره، إذ قاد الجماهير هاتفاً “احبسوها!” (يعني هيلاري كلينتون)، و”ابنوا هذا الجدار!”، و”نظفوا المستنقع!”. وقلَّد صديقه المفضل الجديد نايجل فاراج، قائد حزب الاستقلال البريطاني، مطالباً الأميركيين بجعل الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني “عيد استقلالنا”.
وعلَّق نعوم تشومسكي قائلاً: “كلما علَّق ترامب تعليقاً بذيئاً على أي شخص كان، زادت شعبيته؛ لأنها قائمة على الكراهية. الكراهية والخوف”. وحذر قائلاً: “هذا يذكرنا بشيء كريه: ألمانيا، في زمن ليس ببعيد”. لكن حتى حين أعاد مكتب التحقيقات الفيدرالي فتح التحقيق بخصوص البريد الإلكتروني الخاص لكلينتون، في اللحظات الأخيرة، كانت استطلاعات الرأي لم تزل تؤكد أنَّ ترامب لا يمكنه الفوز. ثم جاء الثامن من نوفبر/تشرين الثاني، وصار الرجل الذي وصفه الكثيرون بكونه بلطجياً معتلاً اجتماعياً، ونرجسياً مُبالغاً، ودهماوياً خطراً، والذي سجل نتيجة أعلى من التي سجلها هتلر في دراسة أجرتها جامعة أوكسفورد عن النزعات السيكوباتية، صار الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة الأميركية.
"بريكسيت جديد"
كان هذا فعلاً “بريكسيت جديدًا” (بريكسيت هو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي) كما وصفته حركة “ألت رايت” (اليمين البديل)، وهي حركة أميركية مؤمنة بتفوق البِيض، والتي احتفل أعضاؤها بالفوز هاتفين “يحيا ترامب!”، مشيرين بأذرعهم إشارة التحية النازية. ووصف البروفيسور فيرنون بوغدانار، المؤرخ الدستوري المحنك، فوز ترامب قائلاً إنه “أكثر حدثٍ سياسي إقلاقاً وقع خلال حياتي. ليس من الصعب إثارة العواطف القومية. لقد رأينا هذا يحدث في ثلاثينيات القرن الماضي”.
وينتظر العالم رؤية ما إذا كان حكم الرئيس ترامب سيكون مشابهاً لحملته. حتى الآن، عيَّن ترامب تاجر بترول من ولاية تكساس وحليفاً لبوتين وزيراً للخارجية، وعيَّن جنرالاً متقاعداً، يشتهر باسم “الكلب المجنون” وزيراً للدفاع، وعيَّن رجلاً ينكر التغيرات المناخية مسؤولاً عن وكالة حماية البيئة، واختار رئيس وكالة “بريتبارت” الإخبارية ليكون المسؤول الأول عن التخطيط الاستراتيجي. بطلاه الأجنبيان المفضلان هما بوتين وفاراج، ووسيلته المفضلة لممارسة الدبلوماسية العالمية هي تويتر. وفي الوقت الذي تحتاج فيه أميركا إلى فصل السلطات أكثر من أي وقت مضى يتحكم حزبه في البيت الأبيض والكونغرس ومجلس الشيوخ.
في الوقت الحالي، تمُر المؤسسات العالمية، التي صُممت لحمايتنا، بمشكلات كثيرة. اعتدنا في السابق أن يكون الأمين العام للأمم المتحدة اسماً مألوفاً، لكنَّ إنجاز بان كي مون الوحيد في السنوات الثماني السابقة هو أن جعل نفسه والأمم المتحدة خفيِّيَن لدرجة أن معظم الناس في العالم بالكاد يعرفون اسمه، ناهيك عن اسم الرجل الذي سيخلفه في يناير/كانون الثاني، (وهو أنطونيو غيتيريس).
وقُدمت رئيسة صندوق النقد الدولي، كريستين لاغارد، للمحاكمة في فرنسا، إذ اتُّهمت بالإهمال الجنائي، وفشلت الدول الأعضاء في حلف الناتو في أن تسدد ديونها لوقت طويل، حتى أنهم لم يُفاجأوا بإعراض ترامب عن الاستمرار في تمويل الناتو، الذي وصفه بكونه مؤسسة “مهجورة” تُكلف الولايات المتحدة “ثروة”.
وصار مستقبل السلطة الرابعة (وهو مصطلح يطلق على وسائل الإعلام، وتحديداً الصحافة) هشاً هشاشة متزايدة أيضاً، إذ انصرف عنها القراء والمشاهدون إلى الشبكات الاجتماعية الأكثر جموحاً، واكتشف السياسيون، من اليسار إلى اليمين، أنهم يستطيعون الهرب من تمحيص وسائل الإعلام السائدة ببساطة، وذلك بأن يتجاهلوها. ففي وقت صار فيه فيسبوك المصدر الرئيس للأخبار لدى الناخبين، واستطاعت فيه نظرية المؤامرة “بيتزاجيت” المجنونة (وهي نظرية تربط بين هيلاري كلينتون وديمقراطيين آخرين وبين شبكة اعتداء على الأطفال، يديرها مطعم بيتزا في واشنطن) أن تخطف انتباه العالم، لا أحد يعرف كيف ستُمكن محاسبة الأقوياء.
إذا كانت الديمقراطية الليبرالية الغربية قد وصلت لذروتها مع سقوط جدار برلين، فمع نهاية هذا العام، صار بقاؤها أمراً مشكوكاً فيه. وقد وصف تيموثي غارتون آش عام 2016 بكونه “عام 1989 مقلوباً”. فقد نهض اليمين المتطرف في أوروبا، وتُعدُّ مارين لوبان المرشحة الأوفر حظاً في انتخابات رئاسة فرنسا، وحتى وإن استمرت أنجيلا ميركل في السلطة العام المقبل، فمن المتوقع أن يفوز اليمين المتطرف “البديل”، الشعبوي والمعادي للمهاجرين، بمقاعد في انتخابات البوندستاغ (مجلس النواب الاتحادي).
هذا الاتحاد الأوروبي، المتصدع والمنقسم، هو الذي سيقود المفاوضات مع بريطانيا حول شروط رحيلها، في ظل تهليل الصحف الصفراء له، وهو غير مقيد بجبهة معارضة فاعلة، وسوف نفهم أخيراً ما قصدته رئيسة وزراء إنكلترا بقولها إنَّ الخروج يعني الخروج (في إشارة لخروج بريطانيا المؤكد من الاتحاد الأوروبي).
كيف حدث كل هذا؟ بعد وفاة ديفيد بوي في يناير/كانون الثاني، وتصويت بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي في يونيو/حزيران، قال الممثل باول بيتاني على تويتر: “في يناير/كانون الثاني، رفضت نظرية صديقي بأنَّ ديفيد بوي كان الصمغ الذي يُمسك العالم ببعضه، لكني لا أعرف الآن.. لا أعرف”.
بعد العديد من الصدمات والأحداث الدرامية، من المغري أن نعُدَّ هذا العام موجة غريبة من الاستثنائية غير التاريخية، لا شبيه لها، ولا قانون يحكمها. سوف يراها التاريخ رؤية مختلفة. تماماً مثلما أخذ تراث انهيار بورصة وول ستريت عام 1929، عدة سنوات ليخرج للنور، لم تتضح تبعات انهيار الاقتصاد عام 2008 سوى الآن. لم يكن هناك شيء سحري أو غير قابل للتفسير في 2016. لكنَّ هذا العام ذكَّرنا فقط بما يحدث حين يمتلك معظمنا أموالاً أقل من اللازم، ويمتلك بعضنا أموالاً أكثر من اللازم.