في طريقهم إلى القدس… إن هؤلاء الصليبيين الذين كانوا يتضوّرون جوعا التهموا بالفعل بعض الأتراك في أنطاكية، ولم تكن بعض البلدات الأخرى التي كانت على طريقهم أحسن حالا بعد أن حرقتها الشمس وقضى الجراد على ما بقي فيها من نبات.
وفي نهاية نوفمبر/تشرين الثاني 1098، يقول الكاتبان إن القوات المسيحية تجمعت بقيادة بوهموند وريموند دي تولوز أمام معرة النعمان، وهي بلدة زراعية متواضعة تعيش على الكروم والزيتون والتين، وسرعان ما حاصروا تلك المدينة الواقعة في سوريا الحالية.
ولم يشعر سكان معرة النعمان في البداية بالذعر، فقد صمدوا بالفعل أمام العديد من الغزاة، بفضل السور المحكم المحاط بخندق عميق الذي يطوّق بلدتهم، لكن مع اقتراب فصل الشتاء، ازداد الجوع شراسة وفتكا، فضاعف قادة الصليبيين الهجمات، وقاوم سكان هذه البلدة مدة 20 يوما ببطولة وبسالة الغزاة الجدد.
وقد ثار غضب الصليبيين الذين كانوا يمنّون أنفسهم بوجود جبال من الطعام داخل المدينة، وفي انتظار تلك المؤن كانوا كلما ظفروا بأحد من عدوهم قتلوه وأكلوا لحمه.
يصف فوشي دو شارتر، وهو أحد الصليبيين، ذلك بالقول “لا أستطيع أن أصف ما حدث من دون أن أتطرق برعب إلى ما كنا نقوم به، إذ كنا نقطع قطعة أو قطعتين من جثة أحد المسلمين، ومنا من لا ينتظر حتى يحمصها بل يبادر إلى نهشها بأسنانه الوحشية”.
وأخيرًا، يضيف الكاتبان أن الصليبيين في 11 ديسمبر/كانون الأول تمكنوا من القفز من فوق السور مستخدمين في ذلك برجا خشبيا، عندئذ تراجع المدافعون عن معرة النعمان بأعداد كبيرة باتجاه وسط المدينة، ليستمر القتال طوال الليل.
وفي اليوم التالي، 12 ديسمبر/كانون الأول 1098، أبلغ قادة المدينة بوهموند أنهم مستعدون للتفاوض، فوعدهم بالحفاظ على أرواحهم في حالة الاستسلام الفوري والكامل.
لكنه نكث وعده، وما كاد سكان معرة النعمان يلقون أسلحتهم حتى بدأت مجزرة رهيبة، قضى فيها الصليبيون على كل من كان حيا في المدينة.
ووفقا لما اطّلع عليه الكاتبان من سجلات، فإن 20 ألف شخص قتلوا في تلك المجزرة، ولكن المهاجمين لما بدأوا نهب المتاجر والمخازن اكتشفوا أنها فارغة، فثار غضبهم وعادوا للجثث التي كانت تملأ الشوارع ليلتهموها.
وينقل الكاتبان عن أحد الجنود، واسمه رودولف دي كاين، وصفه لما وقع بالقول “في معرة النعمان، أقدم جنودنا على غلي الوثنيين (يعني المسلمين) في القدور، وحوّلنا لحوم الأطفال إلى أسياخ لالتهامها مشوية”.
ويعلّق الكاتبان على هذه المجزرة بالقول إن سمعة الذوق الفرنسي في ما يخص الأكل تلقت ضربة قاسية إثر المجازر التي اقترفها الصليبيون هناك وما تكشف من أكلهم للحوم البشر، ولفتا إلى أن ذلك ترك أثرا عميقا في شعوب الشرق الأوسط.
وأضافا أن سمعة الغربيين ظلت بعد هذه الحوادث، على مدى قرون، ملطخة بوصمة عار الشراسة وأكل لحوم البشر، مقابل المسلمين، واليهود، حتى المسيحيين الأرثوذكس الذين لم يعرف عنهم مثل هذا الأمر، وفق وصف الكاتبين.
ويذهب الأدب العربي إلى القول إن أكل الصليبيين للحوم البشر لم يكن بسبب الجوع وحده، بل أيضًا بسبب محاولتهم الحطّ من قيمة المسلم الإنسانية واعتباره في مرتبة الحيوان، على حدّ قول الكاتبين.