أبو العَيْران.. في حارتنا

فاضل السباعي
أديب سوري

كان يُجاور “زقاقَ الزهراوي” بحلب – الذي اكتحلت عيناي بالنور في أحد بيوته ذات الطراز العربي وما كان لي أن أنساه أبدا – ما يُسمّى “السّويقة”، تباع فيها الخُضَر والفاكهة، والخبز نخبزه عند الفران “أواديس”، ولحم الضاني نشتريه من القصّابَين “محمد ياسين” و”الظاظا”، وكذلك كلّ ما يحتاج إليه الأولاد من اللوازم المدرسية أو ما تشتهيه نفوسهم من “الملبّس” المُغشّى بالسكر أو القضامة المالحة، من عند “الحاج أحمد بلبل” الذي نرى إحدى أذنيه وكأنها “مأكولة” من جانبها!
أقول: كان في سويقة حارتنا بيّاع للّبن (ما يسمّى في مصر “لبن زبادي”)، نأتي إليه بالصحن، فيضعه في كفّة الميزان ويعطينا لبنًا غير مغشوش، أكسَبه ثقةَ أهل الحيّ، وإنْ سمعت في السوق مرة مَن يُعرّض بهذا البيّاع، الذي كنا نطلق عليه “أبو العَيْران”، أنّ “علبة اللبن” (وكان اللبن يُعبّأ ويُنقل في عُلب من خشب مستديرة الشكل)، إنْ وجدها “محمّضة” دلقها في الإناء الزجاجي ذي الحنفية من أسفله، يخلط فيه اللبن بالماء والملح وقطع الثلج، ويبيعه “عَيْران”!
أستطيع اليوم، بعد مضيّ سبعين ثمانين سنة، أن أستعيد صورة “أبو العيران”، الذي كان في سنّ الكهولة، سمينًا، مورّد الوجه، يلبس “الصاية” والزنّار، وينتعل قبقابا عاليًا، دكانته صغيرة بعمق ّمتر لا أظنّه يزيد، وكنت أتساءل كيف تستوعب محتوياتِها عند الإغلاق!

مرة وأنا أنتظر أن يزن لي طلبي من اللبن، رأيته يحمل علبة بما تبقى فيها من لبن ليدلقه في الإناء فوق، فتزلّ قدمُه وينزل على الأرض المبلولة محتضنًا العلبة، فيُهرع إليه بعض “أقاربه”، الذين يبيعون الفول والحمّص للآكلين في دكان تواجهه، يُنهضونه سليما لكن مطروشًا باللبن، فكنت وأنا أشاهد لا أعرف: أزعل على أبو العيران لابس القبقاب العالي، أم أضحك!

استطرادًا أقول: إنّ واحدا من أفراد أسرة أبو العيران، وهم من “بيت رضا مجَوَّز”، لمع اسمه في التعليم والثقافة، هو “الأستاذ علي رضا”، له كتابٌ اشتُهر أمره عند دارسي النحو عنوانه “المرجع في اللغة العربية” من ثلاثة أجزاء (حلب 1962)، وهو على غرار كتاب “جامع دروس اللغة العربية” للغلاييني اللبناني ولكنه أكثر منه تبسيطا وتسهيلا، وقد عاش الرجل ما بين 1910-1970.

وعن العيران، الذي عرفتُه صغيرا بحلب ومنتشرًا في بلاد الشام، لم أره بالقاهرة في أثناء دراستي هناك في الخمسينيّات. وهو مستحدَثٌ في بلادنا، أتى إلينا من تركيا أوائل القرن العشرين، يحمل معه اسمه بالتركية “آيران”، فكان «حديث الناس» بحلب، كما يروي العلامة “الأسدي م. خير الدين” في عمله الكبير “موسوعة حلب المقارنة”، ثمّ انتشر معبّأ بالقناني عند باعة الأشربة الغازية وكذلك عند بائعي الوجبات السريعة وفي المطاعم.

وعن الحاج أحمد بلبل، سألت أبي – وأنا طفل صغير – عن أذنه كيف “أُكلت”؟ فحدّثني بأنه، بعد عودته من الغربة في أمريكا الجنوبية يحمل ما ادّخر هناك، طمع به أخٌ له يعمل حمّالا في الأسواق، وطلب منه فامتنع عليه، وكانت بين الأخوين مشادّة انتهت بأن قضم الحمّال أذن أخيه!

دمشق الشام: فجر الأربعاء 29-3-2017

يقول محدّثي :
لمّا تخرج الكلمة للعلن …فلا سلطة لك عليها …
كل يرميها بسهم عينه ..

 

ماهر حمصي

إبداع بلا رتوش
إشترك في القائمة البريدية