نعم… الكتابة لا تكفي .. لـ: منذر مصري

منذر مصري
شاعر وكاتب وفنان سوري

يبدو أنّي لن أستطيع كتابة تلك المقدمة التي وعدت خالد خليفة بها أول عودته من زيوريخ وقدومه في اليوم التالي إلى اللاذقية.
وقد ترسخت فكرة إقامة معرضه هذا في رأسه، لا بالأفكار ولا بالأحاسيس التي خبرتها وراكمتها خلال معايشتي القريبة واليومية، وإن لفترات متقطعة، لتجربته التشكيلية! عندما وقع في روعه، وهو يتأمّل السماء والبحر والأشجار والأسطحة تتلوّن بالأزرق والأخضر والأحمر والأصفر والبرتقالي، عند غروب الشمس ذلك اليوم، وهو واقف على شرفة بيته الصغير في مجمع الدراسات السياحي! أنّه يريد، وأنّه يستطيع، أن يكون رسامًا! لا يعود تاريخ هذا سوى لأعوام قليلة، لا تتجاوز الثلاثة تحديدًا. كما خط بيده على أول رسومه قاطبة، وجه متفحم مرسوم بعفوية شديدة لشخص يشبهني في لحظة ما: “منذريوس.. إلخ – ربيع 2020.

– ما هذا؟

(*) ما رأيك؟

– أأنت من رسمه؟

(*) أهذا سؤال! اسمع ستكون أنت أول من أخبره أنّي قررت جديًّا أن أغدو رسامًا.

– هكذا، بهذه السهولة؟

(*) وأين الصعوبة في الأمر!

– ولكن ماذا عن الروايات؟ أعلم أنّ (لم يصل عليهم أحد) أنهكتك، ولكن يبدو أنّها أنهتك؟

(*) لا تقلق. لدي أفكار تصلح لروايتين جديدتين، وكتاب تأمّلات! 

– تفاجئني دائمًا

(*) المفاجأة الحقيقة أنّ الرواية التي بدأت بها عن حبيبتك، لذا أنت أحد أبطالها.

– حبيبتي! أي حبيبة؟

(*) الأولى والأخيرة.

– أتريد أن تفضحني؟

(*) اللاذقية يا ذكي!

بعدها راح يضحك، ورحت أضحك، ورحنا نضحك سوية.

الآن، أتأمّل الرسوم ذاتها، التي كانت تضحكني، وتضحك خالد وهو يعرضها علي، الواحدة بعد الأخرى، فلا أجد بها شيئًا يضحك، ولا حتى يضطرني أن أبتسم، وإن بحزن! السؤال: أين إذًا ذلك الفرح الذي طالما أغدقته عليّ رسومك يا صديقي؟ أين تحية الصباح التي كانت تلقيها عليّ اللوحة ذات الألوان البهيجة المعلقة على حائط غرفة النوم، ذات النافذة المطلة على جامع أُحد، والمكتبة، والسرير العريض، المخصصة لي خلال فترة مكوثي في بيته، أعلى مساكن برزة مسبق الصنع، مهما طالت. بينما ينام هو، بعد سهر ليلي لا ينتهي إلّا عند سماعه آذان الفجر، على كنبة الصالون، أو على بلاط الأرض، فوق فراش اسفنجي رقيق، استطاع بسهولة إقناعي أنّه يفضله على أي سرير! هذا وسواه من الذكريات، ما يجعلني أشك، أنّه في الأصل لم يكن هناك بهجة، وفي الأساس لم يكن هناك فرح! لتنكشف لنا الشخصية الروائية الذي كان خالد يتقمصها أمامنا، باذلًا كل ما باستطاعته، إن لم أقل حياته، ليقنعنا أنّ الضحكات هي تعبير طبيعي عن الفرح! وأنّ السهر والغناء والرقص تعبير طبيعي عن السعادة! وإن صينية الدجاج مع البطاطا التي تترك بالفرن حتى تكاد تحترق، أو الباذنجان المحشي، أو مخلوطة الخضار مع الكثير من البهارات، أو المكدوس بالجوز والثوم وزيت الزيتون، تعبير طبيعي عن الحياة! إلّا إنها ليست. ليست لماذا؟ لأنّنا نحيا يا خالد حياة ليست طبيعية في بلاد ليست طبيعية! أستعيد الآن الإحساس بتلك الوحدة الجارحة التي عرفتها فيه، ولمستها لمس اليد والعين والقلب، وكيف أنّ كل ما يفعله كان مجرد حيل صغيرة يأمل أن تساعده على تخطيها، أو، فقط، احتمالها. ليس صدفة أن يكون عنوان مخطوطته الشعرية اليتيمة: (كوتر وحيد في كمنجة متروكة). وترًا وحيدًا بكل معنى الكلمة كان خالد. ويستطيع المتأمّل في هكذا عبارة، في هكذا كمنجة، أن يرى أنّ الوتر الوحيد يعني أنّ هناك ثلاثة أوتار مقطوعة. غير إنّ خالد لم يقنع بهذا، عاد وأضاف (متروكة). فبدوره، كمتأمّل في عبارته بالذات، يعلم أنّ وترًا واحدًا في كمنجة سيكون كافيًا ليملأ الدنيا زعيقًا، وهي بيد قرباطي مثله. 

“أستطيع أن أفهم لماذا ترك خالد الشعر؛ التضييق والحصر في الكلام! الكلمات المكبلة، اللغة ذات الاشتراطات، التلميح، المواربة، المحو. “الشعر حذاء ضيق على قدمي” قال خالد”

وكأنّ في الكتابة مشكلة ما، كأنّها لا تكفي، أو ربما لا تنفع في إلصاق نتف روح خالد الممزقة. لا تنفع في ترميم وإعادة تركيب حطام مركب حياته، لا تنفع في علاج انكسار عظام قلبه. انطلاقًا من هذه النقطة الملتبسة أستطيع أن أفهم، أولًا، لماذا ترك خالد الشعر؛ التضييق والحصر في الكلام! الكلمات المكبلة، اللغة ذات الاشتراطات، التلميح، المواربة، المحو. “الشعر حذاء ضيق على قدمي”، قال خالد. وثانيًا، ذهابه إلى الرواية، العالم الأرحب، تمضي في أرجائه على هواك، تشرد، تسهب، تنسى نفسك وتسرد 450 صفحة دون توقف، دون فواصل ودون نقاط! لا مكان لأي شيء يعترض مجرى أو يبطئ التدفق، تخلق أشخاصًا، هذا قال نعم وذاك قال لا، تركض، تطير. ولكن هنا أيضًا مهما ابتعدت ومهما حلقت تبقى تحت سقف اللغة، سقف القواعد، سقف المعاني، سقف الوظيفة والغاية. أنت كاتب ذو مرام وأهداف، أهداف لعينة قاتلة، تريد أن تطيح بعرش طاغية، أن تقتل تنينًا، أن تكسر قيودًا، وأن تحرر شعبًا، من تظن نفسك؟ وثالثًا، كأنّ خالد قد ضاق بذلك القدر الأخرق، الذي يحكم الكتّاب على اختلاف منابتهم، ألا وهو تحويل كل ما يخطر على بالهم من أفكار، وكل ما يخالج أرواحهم من أحاسيس، وكل ما يعصر قلوبهم من آلام، إلى حروف وكلمات، مجرد حروف وكلمات! وكأنّه احتاج، وبشدة، إلى ما يفعله بانفعال حر، أن يفلت انفعاله أمامه. يريد أن يبقي على عاطفته طازجة، على دلق شهوة الحياة الفائضة التي نعرفها فيه. فإذ بالرسم يفعل، الألوان تفعل. مسك الريشة، بتلك الطريقة الرشيقة، وكأنّها عصا مايسترو، وتغطيسها في المرطبان الأصفر أو الأحمر أو الأوكر المفضل لديه، أو خلط خمسة ألوان ببعضها، يفعل. تمريرها على القماش وتحريكها يمينًا وشمالًا وكأنّها ترقص، يفعل. البدء برسم شجرة، تتحول إلى سحابة، ثم تتحول إلى زهرة، وتنتهي إلى أن تصير وجهًا، يفعل. قلت الرسم يفعل، فما بالك برسام ليس لديه أي اعتبارات مسبقة وهو يرسم؟ رسام لم يتعلم الرسم في كلية أو معهد، ولم يلقنه يومًا رسام آخر أي درس؟ رسام حر، لا يبالي بأن يرسم بقلم الفحم فوق ألوان الأكريليك، أو أن يضع اللون الأزرق فوق الأسود، أو أن يرسم شخصًا طويلًا ومائلًا يضرب برأسه طرف الورقة الأعلى، وبجانبه شخص آخر على شكل ملعقة! أن يرسم سفينة، بعدة طوابق، يصعد إليها بشر وحيوانات، صفًّا صفًّا، من كل صنف ونوع، فإذ بها سفينة نوح! أمّا رابعًا، فعليّ أن أفهم موته وأتقبّله! منذ سنتين قلت له: “لا أعرف لماذا أنا قلق عليك!”. أجابني: “ميزو لا تقلق كل شيء على ما يرام وجيد جدا”. ومنذ أربعة أشهر أجبت على سؤال عنه في مقابلة نشرت في موقع (المدن) 17/4/2023: “أخاف أن يموت قبلي”. أنا الذي أزيده عمرًا بخمس عشرة سنة! فقد كان يبدو جليًّا لي ولجميع من يصاحب خالد أنّه يطبق بروتوكول الموت بكل حذافيره. في كل شيء كان يفعله، كل شيء، كانت هناك شهوة الموت!

[أيها الموت

لماذا أخطأتني للمرة الألف

ها أنا في مرماك

أجرّ الشوارع وحيدًا

أي حياة تافهة تعاقبني بها

في شوارع فارغة

إلا من جثث أحبّتي

أيها الموت

لم نعد نخافك

نحن من يبحث عنك

وتفلت كزئبق

من راحتنا.]

ولكن في المرة الألف وواحد، لم يخطئ خالد الموت، ولم يفلت كزئبق من راحته. كعادته، في الساعات الضائعة من النهار، كان خالد في البيت لوحده، عندما دخل هذا الضيف الثقيل من خلال الباب المغلق، فهو لا يحتاج لمفتاح أو حتى لأن يقرع الجرس، هذه المرة، دون إنذار، سبق أن أنذره كثيرًا، أمسك الموت بقبضته الحجرية قلب خالد الواجف، وراح يشد عليه، ويعصره. عرف خالد أنّها المرة الأخيرة. فوضع يده على قبضة الموت، لا لشيء، مجرد لمسة تودد ليد صديق قديم، وأغمض عينه وابتسم.

ترى ماذا قال له الموت حين شعر بتلك اللمسة ورأى تلك الابتسامة؟

(اللاذقية – 27/10/2023)

من أعمال المعرض








يقول محدّثي :
لمّا تخرج الكلمة للعلن …فلا سلطة لك عليها …
كل يرميها بسهم عينه ..

 

ماهر حمصي

إبداع بلا رتوش
إشترك في القائمة البريدية