تحترق أيام الأب النازح من غير دخان، في حروب الشطرنج الخشبية.
يجلس كل يوم في الشرفة مطلاً على الغابة الكثيفة، ويحارب في جبهتين، جبهة الملك الأبيض مرة وجبهة الملك الأسود مرة، ومن يحارب في جبهتين متعاديتين لم يعد له قدر. يسمع أناشيد الطيور فلا يطرب فيه وتر، وينظر إلى خضرة الجنة فلا يضطرب فيه نظر.
خفتت نبرة الأب مذ نزح لاجئاً إلى بلاد الروم، ضيفاً على أولاده وبناته الذين سعوا في لمِّ الشمل ونجحوا بعد ترجمة أوراق كثيرة وادّخار أموال في البنك، كأنما فقد صوته، وباتت معارك الشطرنج سلوته الوحيدة، يلعب ضد نفسه وينتصر حينا أو ينهزم أحيانا حتى يجعل العدو عبرةً، يقف فارساً مدافعاً عن الثغور البيضاء، ثم يخون البلاد ويلعب مع جبهة العدو الأسود.
أمسى صوته كسيراً، راجياً، ضارعاً، كأنه يتربص بصفعة من سجّان. من فات داره قلَّ مقداره.
لم يعد له أحد في الديار سوى الأنقاض، دمّرت البراميل كل شيء، وكان يخشى أن يؤخذ رهينة، فأبناؤه يصدعون بأرائهم في وسائل التواصل، يرثون البلاد والمفقودين والشهداء أو يمدحون الثورة، أو يهجون النظام، في هذه البلاد ليس النظام الجمهوري وراثي وحده، كل شيء ميراث وثأر، الدين، والمذهب، والقبيلة التي بعثتها الدولة من تحت الرماد. والمرء يؤخذ بجريرة أهله، ابناً أو أخاً أو جاراً. لاحظ والمرء يذهل عن نفسه، أنَّ صوته مخذول، لم يعد صادحاً، قوياً، مترعاً بالعنفوان والرواء، وعيناه كسيرتان.
أبناؤه الثلاثة قليلو الكلام، وبنتاه الاثنتان أيضاً، هذا الصمت ليس من ذهب، وزوجته تدافع عن أولادها وسلوكهم الجديد، ثلاث سنوات من الغربة غيّرت سنوات الملح والوطن، يقال إنَّ البنات ينابيع الحنان، ولكن الينابيع تجفُّ وقد يتغيّر مسارها ومصبّها، وكانوا جميعاً يثرثرون في الوطن ويملؤون الدار حركة وبهجة. لكنهم الآن لا يكادون يردّون عليه، وينظرون شزراً إلى طريقة أكله، يتحرش بهم فيسأل ويختلق حواراً، فلا يردُّ عليه حتى الصدى، أجوبتهم على أسئلته إيماء وإشارة، والإيماء انتقاص، وبخلٌ بالصوت الثمين، وغربة، الكرام لا يشيرون. الإنسان حيوان ناطق، فليسعد النطق إن لم يسعد الحال، والزهد في النطق ارتداد إلى رتبة أدنى من رتبة الإنسان الذي علمه الله البيان.
تذكّر جفوة الآباء قديماً، كانت عقوباتهم الكريمة تشبه الثناء، لهم هيبة ومثابة. لم يكن الأمر هكذا في الوطن، كانوا يعودون إليه في كل أمر، يستشيرونه، ويوقرونه، هو الآمر الناهي، لعل السبب هو المكان الجديد، أم هو الزمان الجديد؟ الوقت ضيّق هنا، فهو لا يكاد يراهم، فإمّا هم في الدروس أو العمل. أيكون المال هو السبب؟ فهم ليسوا بحاجة إليه، لم يعد هو الرافد المعيل، وهم أقدر منه على مواجهة صعاب الحياة في الغربة. أسوأ الأبناء الذين يُكرهون آباءهم على ذكر فضلهم عليهم.
لديهم حسابات بنكية مستقلة، وأعمال صغيرة إلى جانب الدراسة، يعودون من حروبهم اليومية إلى منتجعات صفحات التواصل الاجتماعي، أبوهم الجديد هو مارك زوكربيرغ، ووطنهم الجديد هو تويتر أو فيسبوك أو واتساب، يستسلمون فيها خاشعين، طائعين، مبدّلين ومغيّرين فاتنين ومفتونين، في أذانهم وقر السماعات، كأنهم خشب مسنّدة، لو أطلقت عليهم مدفعاً ما انتبهوا، وأدرك أنه ناله الموت الأول: التقاعد، وأن أمثاله لا يدركهم التقاعد قط، الآباء لا يتقاعدون أبداً في الوطن، ليس عن العمل، بل عن المثابة. هنا في بلاد الروم يدرِّبونهم في المدارس على قتل الأب، عقدة أوديب منهاج مدرسي. الأب يجب أن يقتل بعد بلوغ الفتى سن الرشد.
مثل كل أب كان يحبُّ أولاده، ربما كان حبُّه أكبر قليلاً، فكان يضنُّ عليهم بالدواء المرّ، فيذوقه حتى يبتلي مراراته قبل أن يشربوه، مثلما يفعل ذواقة الملك خشية أن يكون مسموماً، ويغلق عينيه حتى لا يرى إبرة اللقاح الطبي وهي تطعن أجسادهم، وهو الآن لا يطمح أكثر من أن يخاطبوه بصفة الأب، أدرك أمس بالمصادفة أن ابنه الأكبر حفظ اسمه في هاتفه كما في الهوية الشخصية، بالاسم الثلاثي! لقد أخطأ في التربية فأين كان الخطأ؟
تسلل إلى هواتف الأبناء كلها وتجسس عليها واختلق الذرائع ليرى اسمه في حافظة الأسماء، حتى يعرف كيف حفظوا اسمه، الأصغر، والأصغر دائماً بطل في الحكايات كان أفضلهم، فقد حفظ اسمه بصفته: بابا، لكن ليس كما يرجو ويأمل، بابا من غير صفات إضافية مثل أبناء أصحابه الذين يحفظون ألقاب آبائهم بصفات التعظيم والتشريف: أبي العزيز، أبي الحبيب، أمي الحبيبة، والدي الكريم، قرّة العين، حياتي، فؤادي، وصفات أخرى تبعث على الفخر والرضى وتفرش ظلال الذل من الرحمة. هل يوجد ابن يكتب اسم أبيه الثلاثي وكأنه فرع مخابرات، أو سجل نفوس، أو بطاقة ذكية؟
نبّه أبناءه أن يردوا عليه فهو يريد أن يسمع أصواتهم، وهو لا يعرف الفيسبوك ولا التويتر، ليس له به مأرب، لكن لا يردون عليه سوى إيماءً بعلامات ايموجي! هل يفتح حساباً حتى يقبلوا صداقته؟
انتبه في رحلة العبور من تركيا أنّ الأجيال التركية الجديدة ما تزال توقّر الآباء، والأبناء يقبّلون أيدي آبائهم ومعلميهم، والترك يبجّلون الآباء والمعلمين حتى في مغترب ألمانيا، المعلم تحوّل إلى هزأة في سوريا ومصر، رغم الشعارات على الجدران التي كتب عليها ذلك البيت الشعري لحافظ إبراهيم. اعترف بشار الأسد في خطاب مبكر أول الثورة أنّ الدولة أخفقت في التربية الوطنية، وتردّت معها الأسرة أيضاً. زار وفد تركي في الخمسينيات الرئيس عدنان مندريس وتضرعوا إليه في وقف التغريب الأتاتوركي، فبكى وقال: أنا وحيد، ليس معي أحد في البرلمان. وكان أن أعدموه.
جلس الأب وتأمل في مشهد الغابة أمامه، يسمع أناشيد الطيور فلا يطرب فيه وتر، وينظر إلى خضرة الجنة فلا يسعده نظر.
أمس انتبه ابنه الاكبر أنّ أحداً ما يجلس في مكانه على الشرفة، في غيابه، وعدّل من وضع كرسيه الوثير، فغضب وثار، وحذر إخوته من احتلال كرسيه في غيبته، لمَ كل هذا الغضب؟ فالكرسي لن ينقص راحةً ولن يزداد تعباً، فأدرك أنها رسالة ناعمة له، الابن الأكبر هو الأب الآن، وليس المقيم كالضيف، ما إن يسمع جرس الابن العائد، وابنه يكسل عن فتح الباب بالمفتاح، حتى يفزع هارباً من عرش ابنه، ويعدّله من جديد، في الجهة المناسبة، حتى لا يمسكه ابنه بالجرم المشهود. ابنه الأوسط وشم معصمه بوشم العلامة التجارية، ووشم رقبته بصورة عقرب، هو من برج العقرب، كلما رأى العقرب أصابه الذعر والخوف على ابنه من لدغته وهمّ بصفع رقبته، سأل ابنه مستنكراً: ما هذا الوشم يا بني؟ الوشم حرام، ولا يجوز للرجال ولا للنساء، هذا تغيير في خلق الله، وباب من أبواب الأمراض ونقل الجراثيم، بنوك الدم لا تقبل دماء الواشمين في أوروبا، هل أنت سلعة ؟ هل أنت عبد؟ الوشوم للحيوانات والمستعبدين.
لكن الابن لم يحر جواباً، أو لم يسمعه، ففي أذنيه وقر، وقلبه غلف، وهو أحياناً يهتز راقصاً، كأنما أخذته رعدة، فهو يسمع موسيقا صاخبة عجيبة تشبه أصوات أسواق الحدادين، فيظن الظانّ أن به صرعاً، والأصغر غاضب لأنهم استعملوا خفّه فبللوه، أو استعملوا فنجانه الخاص، وقد حلق شعره حلاقة منكرة فتحول رأسه إلى رقعة شطرنج، غرابيب بيض وغرابيب سود.
الأب يلعب الشطرنج مع نفسه، يلعب مرة مع العسكر البيض ومرة يخونهم مع المليشيات السود، ويتأمل في مشهد الغابة الكثيفة، يسمع أناشيد الطيور التي تغرد بالرومية ولا يطرب، ويرى الأشجار والخضرة ولا يسعد.
وأمهم تدافع عنهم، وتلومه، أين حنان البنات؟ حاول أن ينبّه البنت الكبرى إلى أنها تسرف في شراء الأزياء حتى امتلأت الخزانة بالأحذية والثياب التي لم تلبسها، الشعب يموت من الجوع، فقالت بوقاحة: ليست من جيبك؟ وقالت الصغرى بوقاحة أكبر: حياتي وأنا حرة فيها. والأم ساكتة وتدافع عن أبنائها وبناتها.
المراهقون فقط يفكرون في الانتحار بعد هجر الحبيب، هل سمع أحد بأبٍ يفكر في الانتحار؟ كل يوم، يخوض معركة، وينهزم، مرة مع الخوذ البيضاء ومرة مع العمائم السود.
يحرق الأب حطب أيامه من غير دخان، في الشرفة، حريصاً على كرسي ابنه الكبير من المسّ، متربصاً بجرس الباب، مذعوراً من عودته، وينظر ساعات في أشجار الغابة، ويسمع أناشيد طيور كثيرة، تغرد بالألحان فلا يطرب فيه وتر، وينظر إلى خضرة الجنة فلا يسعده نظر.
عن جريدة المدن الإلكترونية ، للاطلاع على الموضوع الأصلي ، اضغط هنا