“سرقة المال” MONEY HEIST لـ : سعد فنصة

سعد فنصة
كاتب ومؤرخ ومصور سوري

سبق أن اعترفت في نصوص سابقة انني لا أهدر ثانية واحدة في متابعة فيلم او مسلسل، مالم يكن سيناريو العمل البصري، لافتا ومهما .. انتاجا واخراجا وتمثيلا .. فلاشيء يشدني الى نص فني بالأساس سوى ابداع كاتبه في فنية المعالجة وقوة النص ومتانة الحوار .. بما فيه حوار الكاميرا ذاتها، عندما يصمت نص الحوار، ليسجل حديث الكاميرا بعين الكاتب ورؤية المخرج وأداء الممثل ..باختصار .. خلال الايام الماضية تابعت المسلسل الاسباني ( ماني هايست ) بممثلين شبه مغمورين وبميزانية متواضعة، يتحدث عن عملية غير مسبوقة للسطو على مقر سك النقود المركزي وطباعة ملياري يورو، في العاصمة مدريد .

إلا أن قوة النص وفرادته .. وثقافة مجموعة الكتاب، الذي كتب كل واحد منهم حلقته .. جعلته واحدا من أكثر المسلسلات استقطابا ومشاهدة، وقدر عدد المشاهدين حول العالم بما فاق المليارين، ما دعا شركة Netflix الى شراء حقوق الانتاج واصدار اجزاء جديدة ..

أهمية هذا العمل برأيي، أنه فاق حدود النصوص المعتادة في طرح قضية عالمية متعددة الأوجه .. فالمسلسل يكشف بفنية حدود الرأسمالية العالمية، وانظمتها المالية، باعتبارها احدى اخطر شرور العالم، فصحيفة اللوموند وصفت الاهتمام العالمي بهذا العمل كردة فعل طبيعية لدى الجمهور من أجواء الخيبة العالمية، حتى بات اللصوص ابطالا مثاليين، بينما اشارت بعض التقارير الصحفية الى ان هذا المسلسل يشجع على التمرد والثورات، وقيام اعمال الارهاب واختطاف الرهائن ( المؤلف وشركاؤه بدوا لي بهوية الفكر وكأنهم يساريون برموز الاغاني الشهيرة المغناة في المعتقلات الاسبانية خلال حكم فرانكو ) ..

ولكن ثراء هذا المسلسل لايتوقف عند حد ..فهو يتعرض لأكثر مفاصل الحياة صداما اخلاقيا .. عندما يقدم لمحات خاطفة تضع المتابع للمسلسل امام تساؤل اخلاقي ..أيهما أكثر اخلاقية ؟؟.. هل هم المجرمون الذين يسطون على البنك، ويرمون جزءا من المال بالمناطيد للناس تشبها بروبن هود، ام هي الشرطة وانظمة المخابرات الفاسدة، وحكومات العالم اللصوصية خصوصا عندما استطاع أفراد العصابة تحريك الرأي العام لدفعه الى التظاهر، بالآلاف خارج حلقة الحدث، تأييدا لهذه العصابة ..

والأعمق من كل هذا وذاك هو قدرة هذا المسلسل على تشريح علم النفس الجنسي، بهذه المقدرة المتفوقة، التي تضع المشاهد أمام صور حقيقية وجريئة للغاية لعالم لازال يحبو في فهم دوافعه الجنسية المغفلة، التي لا يقف في وجهها سد او مانع مهما نافق الانسان، وغَفِلَ عن عللها وامراضها وسلوكياتها…

يتعرض المسلسل لقضية محلية عالمية، مشتركة في التعذيب الممنهج للمعتقلين .. ويوحي ان ممارسة التعذيب شكل من اشكال الانحراف الجنسي لمنظومة القيم الاخلاقية، بالاساس …وهو ما بحثته شخصيا في نصوص سابقة نشرتها منذ سنوات ..

اللافت في هذا المسلسل، ايضا بالاضافة إلى متانة صياغة النص وعلو درجة ثقافة الكتاب وفريق المؤلفين الذين تناولوا في حلقاتهم الفلسفة القيمية للحياة، في تكنولوجيا التلقيح والتطور والعنف ضد المرأة بما فيها الدول الاكثر تحضرا. تناول المسلسل ايضا لمحات هامة من الابداع الانساني في صناعة التاريخ والفن والموسيقى، فكان سلفادور دالي وغيره حاضرين بقوة.

الأهم من كل ما ورد في هذا المسلسل السينمائي المدهش هو الفنية البوليسية، شديدة الحساسية في حرب الذكاء بين العقول، وكأن فنية القص البوليسي الذي يحبس الأنفاس لأجاثا كريستي وآرثر كونان، وأدباء هذا النوع من الفن الذي يأسر الحواس، بملامحه العبقرية المتجددة في علم نفس الجريمة، قد منح هذا العمل نكهة خاصة وقيمة مضافة.. تتقاطع مع رموز الفيلمين الامريكيين الشهيرين .. “صمت الحملان” بوعي الثقافة .. و”المحترف” بالقيمة الاخلاقية ..

أنصح بمتابعته لمن هم فوق 18 عاما …


يقول محدّثي :
لمّا تخرج الكلمة للعلن …فلا سلطة لك عليها …
كل يرميها بسهم عينه ..

 

ماهر حمصي

إبداع بلا رتوش
إشترك في القائمة البريدية