حكاية وطن محتل …لـ : جمال مامو

جمال مامو
كاتب و صحفي سوري

تحتل بنايات العبارة الضخمة موقعاً حيوياً في قلب الوسط التجاري لمدينة حلب، هناك تنتشر محلات بيع الأحذية الرجالية ومحلات بيع الأجهزة الكهربائية على صفي الشارع المخصص للمشاة الذي يحده شارع بارون من الغرب وشارع المنشية القديمة من الشرق..

كنت أمر من الشارع المزدحم يومياً فأرى مئات من اللوحات الإعلانية التي يعود بعضها لأطباء أو لمهندسين أو لمحامين بينما يعود بعضها الأخر لهيئات جكومية أو حزبية.
رغم مروري الدائم من المنطقة لكني قلما فكرت في الصعود إلى هناك.
في احدى المرات، وكان ذلك في أواخر الثمانينات من القرن الماضي، صعدت إلى إحدى هذه البنايات قاصداً مبنى جريدة الجماهير. فأخطأت في الطابق المطلوب، وكان الطابق الثاني بدل الأول، فوجدت نفسي أمام مكتب وضعت على بابه لافتة صغيرة كتب عليها بخط ناعم “مكتب الحركة الجماهيرية الشعبية لتحرير أريتريا”.
.كان الباب موارباً، طرقته فإذ برجل أسمر اللون يجلس وراء طاولة مصفرة ووراءه خريطة الوطن العربي وخريطة أخرى لإريتريا وصورة لحافظ الأسد وهو يعتصر قبضتيه..
كنت مرتبكاً أحمل في يدي كتابي الجامعي ..ابتسم لي الرجل الأسمر، الذي تبين أنه كان يجالس امرأة سمراء تجلس على الجانب الأيمن من الباب، ثم قال لي : تفضل!
قلت له:” هون مكتب الجماهير؟” نسيت حينها أن أذكر كلمة جريدة ! فقال لي بابتسامة ماكرة:” هون الجماهير كلها! أي جماهير تريد؟ نحن جماهير أريتريا السمراء تحت خدمتك! سألته ببلاهة :” ليش شبها أريتريا؟ من مين بدكم تتحرروا ؟ ”
قال لي باستغراب:” معقول، أنت شاب جامعي مثقف ولا تعرف أن ارتيريا ترزح تحت الاحتلال الإثيوبي البغيض؟”
أجبته: “لا والله لا اعرف، هي أول مرة بسمع فيها أنو ارتيريا محتلة وأنو الشعب الاريتري عم يناضل من أجل التحرر!”
أجلسني الرجل في الكرسي المقابل للفتاة السمراء، التي تبين أنها مبتعثة إلى جامعة حلب، ثم بدأ بالكلام عن تاريخ اريتريا.وكفاح الشعب الاريتري.
.سمعت الرجل لربع ساعة دون مقاطعة ثم قلت له :” لماذا لا تروجون لقضيتكم؟ أين مظاهراتكم ؟ نشاطاتكم؟ ”
قال لي :” كل سنة نذهب إلى صالة معاوية في ذكرى انطلاق حركتنا ونحتفل ويحضر نشاطنا الرفاق من حزب البعث..سندعوك للاحتفال معنا هذا السنة إن شاء الله.”
استأذنت من الرجل الذي أعطاني بعض الكتيبات عن الحركة وارتيريا وتاريخها ومضيت تخالجني مشاعر متضاربة من السعادة والحزن معاً لكوني اكتشفت حركة تحرر جديدة ولأنه تبين لي أن جزءاً جديداً من الوطن العربي كان محتلاً من الإثيوبيين الغاشمين! يعني مو مكفينا الإسرائيليين .
.أعود بذاكرتي إلى هذه الحادثة التي مر عليها 29 عاماً ولا أدري لماذا ينتابني اليوم شعور بأننا سنصبح مثل تلك الحركة وسينتهي مصيرنا إلى مكتب مجهول في بناء ضخم ورجل أبيض البشرة وحيد هناك يوزع كتيبات على المارين في طريقه بالمصادفة ليقول لهم: “أن ثمة وطناَ اسمه سوريا يقبع تحت احتلال غاشم منذ قرن كامل!”

يقول محدّثي :
لمّا تخرج الكلمة للعلن …فلا سلطة لك عليها …
كل يرميها بسهم عينه ..

 

ماهر حمصي

إبداع بلا رتوش
إشترك في القائمة البريدية