
في عالم تتطاير فيه الأفكار كالشرر في ليلة عاصفة، يظل السؤال يتردد كصدى لا يهدأ: هل الحقيقة شيء ملموس يمكن أن نتشبث به، أم مجرد ظل يتشكل بين أنفاس من يرويها؟
عندما تُرفع الأيدي المرتجفة تحت الأنقاض، أو تُسمع صرخة أم فقدت ابنها، يصبح من الصعب تصديق أن “الواقع” يمكن أن يُرى بعيون صافية. المنظورات تُحيط بنا، تُشكلها أحلام مكسورة ومخاوف دفينة، فتتركنا نتساءل: هل نحن حقًا نملك الحقيقة، أم أنها تُسرق منا في كل لحظة؟
هذه ليست مجرد تأملات، بل جرح ينبض في قلب التاريخ، ذلك السجل الذي يُفترض أنه يعكسنا، لكنه غالبًا يُكتب بحبر السلطة، ويُشوه بهمس الشائعات، ويُحرف بأيدٍ تتقن التلاعب.
في قلب الثورة السورية، تلك الانتفاضة التي تحررت من قبضة نظام عائلة أسد ، تتجلى هذه المعركة على الحقيقة بكل وضوحها المؤلم.
لم تكن الحقيقة كلمة تُقال أو فكرة تُدون، بل صرخة شعب أراد أن يُسمع، لكنها اصطدمت بجدار من التضليل.
في تلك الأرض الممزقة، لم يكن التاريخ مجرد حكاية تُروى، بل ساحة صراع حيث تُدفن الحقائق تحت ركام التعذيب في السجون، ووحشية المسالخ البشرية، ودخان السلاح الكيميائي الذي خنق أنفاس الأبرياء.
كل ذلك بينما كان النظام ينسج روايته بخيوط الشائعات، يحيكها بعناية ليُعمي العالم عن دماء لم تجف، وعن أرواح ما زالت تُطالب بالعدالة من تحت التراب.
منظورات متصارعة وشائعات تُعمي
يقول بيرتراند راسل :” إن الحقيقة ليست شيئًا ثابتًا، بل تتكون من خلال الرؤى المختلفة” ، وفي سوريا تتجسد هذه الفكرة بمرارة لا تُطاق.
لم تُكتب الأحداث كما وقعت، بل كما أرادها نظام الطاغية : سرد مشوه يغطيه ضباب الشائعات. في الغوطة، عام 2013، اخترق السلاح الكيميائي صمت الليل، تاركًا أجساد الأطفال تتلوى بلا حياة.
العالم توقف مذهولًا، لكن النظام أطلق شائعاته كالسهام: “مؤامرة خارجية”، “فبركة من المعارضة“. تلك الشائعات لم تكن مجرد كلمات تائهة، بل سلاح حاد يُطعن به الحق، محاولة لإخفاء جريمة لا يمكن لعين أن تتجاهلها.
هل نحن حقًا نملك الحقيقة، أم أنها تُسرق منا في كل لحظة؟
الشائعات لم تتوقف عند حدود الهمس، بل تحولت إلى أداة حرب تُشكل الرواية وتُبدل الأدوار. كانت جسورًا يعبرها النظام ليحول ثورة شعب إلى “فوضى إرهابية”، بينما كانت السجون تئن بأنين المعذبين.
إريك هوبزباوم كان محقًا عندما قال :إن التاريخ لا يُكتب ببراءة، بل يُعاد صياغته بيد من يملك القدرة على فرض صوته.
في سوريا، كان هذا الصوت مشبعًا بالدماء والأكاذيب، يحاول أن يُطمس الحقيقة تحت طبقات من التضليل.
التلاعب بالحقائق: جروح لا تُمحى
في الثورة السورية التي تحررت من نظام عائلة أسد الفار ، لم يكن التلاعب بالحقائق مجرد خدعة عابرة، بل وحشًا يلتهم كل ما هو حقيقي. شهادات الناجين من صيدنايا تروي قصصًا تُدمي الضمير: سياط تمزق الجلود، نار تكوى الأجساد، إعدامات تُنفذ في ظلام دامس. تلك الأصوات المكسورة تحمل ألمًا يفوق الوصف، لكن النظام ردد دائمًا: “كذب”، “افتراءات”. ثم جاءت صور قيصر المسربة، أجساد هزيلة تحمل آثار التعذيب، شاهدة صامتة تتحدى كل محاولات الإنكار.
وفي خان شيخون، 2017، خنق غاز السارين أنفاس الأطفال وهم في أحضان أمهاتهم.
المشهد كان كابوسًا يمزق الروح، لكن النظام لم يتردد في إطلاق روايته المزيفة: “مسرحية”، “فبركة”. كانوا يحاولون إقناع العالم أن تلك الأرواح التي سُلبت لم تكن سوى جزء من لعبة، بينما كانت دموع الثكالى تروي أرضًا لم تجف من دمائها.
التاريخ هنا لم يكن سجلاً للأحداث، بل معركة يومية بين من يتشبث بالحقيقة ومن يريد دفنها. نظام الطاغية استخدم الشائعات كدرع، والتضليل كسيف، لكن الثورة كانت أقوى من أن تُكسر.
التاريخ: مرآة أم سلاح؟
التاريخ يمكن أن يكون مرآة تعكس ما نحن عليه، لكنه في أحيان كثيرة يتحول إلى سلاح بيد من يملك السلطة.
في سوريا، حول النظام التاريخ إلى أداة لتبرير جرائمه. كانوا يرددون “نحارب الإرهاب”، ينشرون شائعات عن “مسلحين أجانب”، بينما كانت المدن تُقصف والأطفال يموتون تحت الأنقاض. كانوا يحاولون إعادة كتابة الذاكرة، ليجعلوا من الضحية عدوًا ومن الجلاد حاميًا.
لكن الثورة السورية، التي تحررت من نظام عائلة أسد ، كانت صوتًا لا يُسكت. كل صرخة من تحت الأنقاض، كل دمعة من عين أم، كانت دليلاً على أن الحقيقة لا تُدفن إلى الأبد. كانت تذكيرًا بأن التاريخ ليس مجرد حكاية، بل جرح ينبض، ومسؤولية تُلقى على عاتق من يبحث عن الحق. الحقيقة ليست هدية تُمنح، بل نسيج دقيق تتداخل فيه المنظورات والشائعات، وتحتاج إلى من ينتزعها من بين أنياب التلاعب.
عيون دامعة تبحث عن الحق
الثورة السورية ليست مجرد فصل في كتاب، بل نداء يتردد في الضمائر: لا تقبلوا الحقيقة كما تُروى، ابحثوا عنها. السجون التي فُتحت، المسالخ التي كُشفت، الأسلحة الكيميائية التي شهد عليها العالم، كلها تصرخ: “لا تنسونا”.
من كتب هذه القصة؟
ولماذا اختار أن يُخفي دموع الأمهات وأنفاس الأطفال؟
وأي أصوات سُرقت تحت ضجيج الشائعات؟
هذه الأسئلة ليست تأملات عابرة، بل دعوة للنظر إلى الماضي بعيون دامعة، عيون ترفض الأكاذيب وتتوق إلى الحقيقة التي تستحقها أرواح الشهداء.
الثورة السورية علمت أن الحقيقة كنز يُنتزع من بين أنياب الظلم، وأن السكوت ليس خيارًا. فهل هناك من يملك الشجاعة ليستمع، ليبحث، ليكون جديرًا بهذا النداء؟
الجواب يكمن في كل قلب ينبض بالعدالة، وفي كل يد ترتجف من الأمل والمسؤولية.