خادمات عائلة سورية محدودة الدخل…لـ: منذر مصري

منذر مصري
شاعر وكاتب وفنان سوري

في الصَّيفِ تكنُس

فيلوح لنا فخذاها

وخدا إليتيها

وفي الشِّتاءِ تشطُف

فتبرُدُ وتبكي.

الأرضُ طِفلة

أحضرَها أبوها لتعملَ عندنا

خادِمة..

(1973)

إذا بدأت بالذكرى التي أوحت لي بهذه الاستعارة القاسية لأختم بها قصيدتي الباكرة أعلاه، فإنني سأكون قد بدأت، ليس من البداية، كما من المفترض، ليأتي سردي بعدها متسلسلًا حسب التقدم الزمني، وليس أيضًا من النهاية ليأتي السرد معكوسًا، على طريقة (فلاش باك) وترجمتها غير الموفقة، الارتجاع، أيّ، أن تبدأ بالنهاية وتنتهي بالبداية، كما في كثير من الروايات والأفلام السينمائية! فالطفلة (مروة) التي أحضرها أبوها لتعمل عندنا خادمة، ليست أول ولا آخر خادمة عملت في بيتنا. إلا أنها أيضًا، الآن أنتبه، ليست من كانت «في الصيف تتعرَّق وفي الشتاء تبرد» كما في المقطع الأول من القصيدة. تلك كانت (فريدة) وهي أول خادمة أتذكّرها، لا بل أتذكرها جيدًا، على رغم أني لم أكن حينذاك أكثر من طفل صغير.

كان ذلك في أول أعوام عقد الخمسينيات من القرن الماضي، عائلة لاذقانية متوسطة الحال، يعيلها أب ذو لكنة غريبة، من مواليد طرابلس، وخريج مدرسة (اللاييك) بطرطوس: (شكيب مصري)، موظف بسلك الأمن العام، سرح من عمله أول عام 1956م، بعد قضائه ثلاثة أشهر، «ضيفًا عزيزًا مكرمًا»، كما كتب لأبيه، في سجن المزّة، بشبهة كونه عضوًا في الحزب القومي السوري، الحزب الذي أتّهم بتدبير وتنفيذ عملية اغتيال عدنان المالكي في 22/4/1955م، ومنع كلّ من ينتسب إليه من العمل لدى مؤسسات ودوائر الدولة! وأمّي: (خالدية نحلوس) التي، بسبب حاجة عائلتها المادية، أضافت إلى عمرها عامين، لأجل أن تعين معلمة رياضة في المدارس الابتدائية الحكومية.

وكنا نسكن، في بيت تعود ملكيته لأناس آخرين، نصعد إليه بواسطة درج حجري مكشوف، يتألف من غرفتين، واحدة بسرير عريض نسبيًّا لنوم أبي وأمّي، والثانية بطقم كنبات، منجّد بقماش من المخمل الخمري لاستقبال الضيوف، وسريرين مفردين، الأوّل لنوم خالي (غاندي) إلى حين انقضاء مدة عزوبيته، والثاني لنوم جدتي وأنا، حفيدها الأول والأثير! وصالون واسع بنافذتين عاليتين، كنا نحتاج أن نقفز أو نتسلق كرسيًّا لنمسك بقضبانهما ونطل على حديقة كبيرة، أو بالأصح بستان غير معتنى به صار أقرب إلى غابة كثيفة باسقة الأشجار، تمنع عنّا رؤية نوافذ بيت شريتح الأقرب إلى قصر، ومطبخ بالغ الضيق، تقلّ مساحته عن مترين مربعين، تحتله طاولة صغيرة ونملية طعام خشبيتان، وذلك قبل استبدالها عام (1958) بأول برّاد (فريجيدير) دخل للحارة. نهبط منه بدرجة واحدة إلى غرفة بدون نافذة، يأتيها النور فقط من بابها، بأرضية حجرية تزيد مساحتها عنه قليلًا، نستخدمها، أو الصحيح، تستخدمها جدّتي، لعمليات غلي الثياب وغسلها، وجلي الطناجر والصحون، والحمّام بواسطة تنكة ماء ساخن لدرجة الغليان فوق بابور الكاز، بجانب تنكة ماء باردة على الأرض، لمزج الماء الساخن بالبارد بالقدر المطلوب.

أما المرحاض فهو يقع في الزاوية الشرقية للمنور الواسع غير المسقوف الذي يفصل الباب الخارجي عن مدخل الصالون. نعم جدّتي، ذات الخمسين عامًا، حينها، لا أمّي، من كانت تقوم بكلّ هذا، فقد كان البيت الذي أصفه، في الأصل، بيتها الذي كانت تسكنه مع أولادها الثلاثة، أمي وأخويها (خالد) و(غاندي). ولسبب مادّي غالبًا، رغم رخص أثمان البيوت وإيجاراتها حينذاك! عشنا فيه جميعنا، منذ زواج أبي وأمّي عام (1948) وحتّى انتقالنا منه عام (1960). البيت الذي ولدت فيه، أنا الابن الأوّل، في 27/5/1949م، وتبعني أخوتي الثلاثة (ماهر) و(مرام) و(منى) خلال ما لا يزيد على ستة أعوام. القائم بسطحه القرميدي، في منتصف ما يطلق عليه حيّ الصباغين الغامض الحدود، كان وما يزال، حتّى بعد أن هدمت أغلب المعالم القديمة لتلك المنطقة الشعبية من المدينة، عقب أحداث الثمانينيات الدامية في سوريا، والتي كان للاذقية فيها نصيب معتبر!

ذلك الزاروب الضيق الذي يصعد من سوق الداية شمالًا ليهبط إلى القبة الحجرية فوق دكان (الحميمي) لبيع الدخان والتنبك، التي كانت تشكل بوابة حيّ الشحّادين، شرقًا. والذي يتوسّطه، مقابل بيتنا تمامًا، الباب الغربي لساحة جامع (المشاطي)، وتطلّ على بيوته المتلاصفة مأذنته القصيرة! بعده انتقلنا، وأحسب السبب المباشر لذلك، عودة خالي (خالد نحلوس) لاعب كرة القدم الشهير، بشكل نهائي من دمشق واستقراره في اللاذقية، إلى بيت آخر في حي جديد، يشكل توسع اللاذقية جنوبًا، ولكن بدل أن يطلقوا عليه اسمًا خاصًّا به، أسموه: (مشروع تجميل الصليبة)! البيت الذي في عام (1962)، وبعد ولادة أختي الصغرى (منى) بسبعة أعوام، ولد فيه أخي الأصغر، بعد أن انتظر أبي وفاة جدّي، حسب الأعراف الطرابلسية، حتّى يطلق عليه اسمه: (رفعت).

(فريدة) ضاحكة في أغلب الأوقات

أوّل خدّامة أعرفها، رغبت باستخدام صيغة الفاعل المشددة، ولو لمرّة واحدة فقط، كما اعتدت سماعها، بدل خادمة، فكلتاهما فصيحتان، وكلتاهما محقّرتان اجتماعيًّا. قلت سماعها، ولم أقل نطقها، فقد كان من المحرّم في بيتنا التلفّظ بأيّ منهما! ولكنهن كانوا خادمات، في واقع الأمر، قبلنا بهذا أو أنكرناه! لم يكن لدينا خادمة قبلها، لا أعرف لقب عائلتها! كما لا جواب لدي عن كيف جاءت إلى بيتنا؟ كلّ ما أعرفه هو أنها (قرباطية)، وهذه صفة أخرى اكتسبت وقعًا مهينًا اجتماعيًّا، وأنه كانت لها قريبة، ابنة عمّ على ما أذكر، اسمها (حميدة)، سآتي على ذكرها في السياق، تخدم عند بيت خالتي.

ذكرياتي عن (فريدة) كثيرة، على رغم أنها تركتنا وأنا في عمر السادسة أو السابعة، كانت في أواسط العشرينيات من العمر، سمراء، بقدّ مكتنز، متوسّطة الطول والامتلاء. بعاهة ظاهرة بإحدى عينيها، “فريدة العورة.. آه يا سلام” كان أولاد الحارة يهتفون إذا نهرتهم، لسبب أو لآخر، في أثناء خروجها من البيت لمهمات طارئة، فقد كان أبي المسؤول عن إحضار أيّ شيء نحتاجه، كما عندما ترسلها أمّي لتوصل أو تحضر شيئًا من مكان ما، أو لمواعيد غامضة لم يتوضّح لنا سرّها إلا لاحقًا. أذكرها ضاحكة في أغلب الأوقات، تغني وهي تزحف على أطرافها الأربعة عند مسحها الأرض! تاركة لي فرصة اعتلاء ظهرها، طوال عملية المسح! مشكلات جدّتي وأمّي معها كانت تبدأ بتباسطها وتلهيها بالوقوف مع شباب الحارة والبائعين في سوق الداية، حتّى إنها كانت تضيفهم من الشوكلاته والسكاكر التي كانت أمّي ترسلها لتحضرها من محلّ (النحاس) الواقع مقابل سينما الشرق في الشارع المؤدي لحي القلعة، في حال زيارة زميلاتها المعلمات لبيتنا الشديد التواضع، ولا تنتهي بمغادرتها البيت دون أن تخبر أحدًا وغيابها لساعات طويلة، في البدء اكتشف أهلي العلاقة بين مرور الفرقة الموسيقية العائدة لسلاح البحرية، وسماعنا صوت أبواقها وصنوجها، وبين اختفاء أيّ أثر لفريدة في رمشة عين! بعدها عرفنا أنها على علاقة غرامية مع قارع الطبل في الفرقة، وكان قرباطيًّا مثلها. تأكّدنا من ذلك، عندما جاء إلى بيتنا، لأول وآخر مرة، وأخذها معه!


(هدى) لم تكن خادمة بأي معنى

لم تذهب (فريدة) دون أن تأتي لنا بفتاة بديلة، في الثالثة عشرة من عمرها، سمراء حنطية مثلها، وتشبهها، على أنها ابنة أختها، لتحل محلها. انتقلت (هدى) معنا إلى بيتنا الجديد، في مشروع تجميل الصليبة، كما سبق وذكرت، حارة (الدعبول) أصحاب آخر قافلة جمال، كانت تستخدم لنقل البضائع من مرفأ اللاذقية إلى المدن السورية القريبة والبعيدة، كما كانوا أصحاب الفرن الوحيد ودكان السمانة الوحيدة في المنطقة. لم تكن (هدى) خادمة بأي معنى للكلمة، كأنها لم تكن تعلم ماذا تفعل عندنا، ولم يكن لها القدرة لأن تفهم لماذا يجب عليها بالذات أن تقوم بتلك الأعمال المنزلية الشاقة، من كناسة ومسح وجلي واعتناء بأخوتي الصغار، عوض الذهاب إلى المدرسة وارتداء الثياب الجميلة والوقوف أمام المرآة. حتّى إنها راحت تتعارك وتتضارب مع أخي ماهر، الذي كان يقاربها بالعمر، وكانت السبب في وقوعه من حافة النافذة إلى حديقة الطابق الأرضي، وحمله إلى المشفى الوطني القريب، لحسن الحظ، مغشيًّا عليه! صامتة دائمًا، لا تتكلم ولا تجيب سوى بنظرات من عينيها الغائمتين. عزيزة النفس، اتهمها مرة أحد أقاربنا بسرقة خاتم زوجته، تبين بعد ذلك براءتها. بقيت معنا ما يقارب الستة أعوام، حتى جاء أهلها وأخذوها، لكنها هربت منهم وعادت إلينا مساء اليوم ذاته، فما كان من أبي إلا أن أمسك بيدها وأخذها بنفسه وسلمها لهم.

(حميدة) و(سكّر)

خادمتا بيت خالتي (فكرية قدور)، ابنة خالة أمّي، كنا ندعوها خالتي بسبب العلاقة الأخوية بينهما، فقد تربيتا معًا من طفولتهما بعد الوفاة الباكرة لكلا أبويهما، وكانت بدورها مديرة مدرسة ابتدائية، لكونها خريجة الدفعة الأولى لدار المعلمين التي أنشأتها السلطات الفرنسية في اللاذقية أواخر ثلاثينيات القرن المنصرم. عمل زوجها (يحيى عنتابلي) موظفًا في مديرية المالية حتى تقاعده، الذي لم يحيا بعده سوى أعوام قليلة. أي أنهم كانوا على ذات مستوانا المتوسط ماديًّا واجتماعيًّا، وقد انتقلوا من بيت ذي حديقة في حي (الكاملية) إلى بيت بالقرب منا، أول مشروع تجميل الصليبة. سمعت مرة عمي (ابو مصطفى) يقول: «أفضل شيئين فعلتهما في حياتي، زواجي من (فكرية) وشرائي هذا البيت».

الأولى (حميدة) ابنة عم (فريدة) قرباطية وسمراء وذات قدٍّ متوسط الطول والامتلاء مثلها، ولكن بعينين سليمتين، وآثار ماثلة على خدها، نتيجة إصابتها في صغرها بحبّة (حلب). عاشت في بيت خالتي، وكأنها إحدى بناتها، إلا أنها أقامت علاقات متشابكة مع سكان الحي المتنوعي الهوية (أرمن وأكراد ومسيحيين أرثوذوكس وموارنه وعلويين، بين الأغلبية السنية)، مما أتاح لها أن تلعب دورًا مهمًّا في حالات الحب والخصام بينهم! إلى أن تزوجت من معلم إكساء (مليّس) وأنجبت منه أولادًا عدّة. لكن القدر الغاشم لم يشأ أن يكمل معها حظّها الجيد، فتوفّيت عقب خطأ جراحي في أثناء ولادتها لابنها الثالث، في عيادة طبيب نسائية، ثقب بمبضعه جدار الرحم، ولم يستطع إغلاق الجرح وإيقاف تدفّق الدم، فنزفت حتى ماتت! الثانية (سكر)، وكانت للغرابة مسيحية الدين، بيضاء وذات شعر فاتح تغطيه عند خروجها من البيت بإشارب. لم تكن من سكّان اللاذقية ولا ريفها، بل ربما كانت لبنانية من قرية قريبة من مدينة (تلكلخ) الحدودية! لا أدري كيف جاءت لعند بيت خالتي وعاشت بينهم وكأنها واحدة منهم، متلائمة كل التلاؤم مع البيئة الدينية المعتدلة التي كانوا عليها. ما أعرفه أن بعض المسيحيين الذين علموا بأمرها، استنكروا كونها خادمة عند عائلة مسلمة، فعملوا على أن تترك بيت خالتي وتعود لأقارب لها، يسكنون في بيروت.

(جملو) كلما قالت شيئًا تتبعه “بلا معنى”

بسيطة لحدّ السذاجة، مع اعتداد شديد بالنفس، من الطبيعي ألا أنسى اسمها، الذي، قالت إن أباها سمّاها به تيمنًا بالأغنية الشعبية (الله الله يا جملو)، ومن الطبيعي أيضًا ألا أتذكّر لقب عائلتها، فلا شيء كان يدعونا للحرص على معرفة ذلك، على رغم كونها ذات مكانة معتبرة في قريتها (سناكرو) على حدّ قولها، ترتدي، شتاء وصيفًا، ثيابًا من أقمشة ملونة ومزخرفة فوق بعضها، فضفاضة وطويلة تصل لحذائها، فيصير من المتعذّر، أن يحزر المرء، ما إن كانت ممتلئة أم نحيلة! (جملو) أول خادمة دخلت بيتنا من ريف اللاذقية، وأيضًا بعين بيضاء، إثر جرح سبّبه دخول طرف فرع زيتون في عينها اليمنى وضعوا له كريم (نيفيا) بقصد شفائه، مما أحال بؤبؤ العين إلى بياض مائل للصفرة، وعماها بصورة نهائية. «يكفي الإنسان عين واحدة»، كانت تقول، اختارت أن تنام على فراش فوق أرض المطبخ. ذات ليلة، طاف البيت، وعام الفراش وسط الماء، ولم تستيقظ إلا بعد أن راحت أمي تهزها وتصيح بها. أذكر دعوات أمي ليرسل الله شمسًا ساطعة تجفّف سجّادة الصالون التبريزية التي كان أبي قد ابتاعها مؤخّرًا، بعد نشرها، والماء يزرب منها، بمساعدة (جملو) على طرف شرفة البيت!

كانت (جملو) ترى نفسها جميلة الجميلات، اسمًا على مسمّى! تستنكر أكل النساء الفليفلة والبهار الحار! عالق على لسانها عبارة: “بلا معنى”. فكلّما تقول شيئًا، تتبعه بـ “بلا معنى”: “دخل، بلا معنى”، “واسع بلا معنى”، “طويل بلا معنى”، “يوجعني بلا معنى”! إلى آخره، أذكر أنه في إحدى زيارات صديق أبي ورفيقه في الحزب والنضال، عضو المجلس الأعلى، الأمين (فؤاد شواف)، الذي أُطلق عليه يومًا لقب: “قديس الحزب القومي السوري”، وكان قد خرج منذ أسابيع قلائل من سجن المزّة، بعد قضائه فيه ثمانية أعوام وبضعة أشهر، (إذا لم يكن هذا دقيقًا، أرجو أن يصحّحه لي من يعلم) بتهمة المشاركة في الإعداد لعملية اغتيال عدنان المالكي! وذلك أبعد ما يكون عن الحقيقة، بعرف أبي. بغاية التعرف على إحدى زميلات أمي في التعليم (ليلى حميدان). و(جملو)، تدخل وتخرج من الغرفة وتسأله أمام الإنسانة التي يبذل كل ما بمقدوره لإقناعها بالزواج منه.

وهذا ما حصل فعلًا: “أهلًا وسهلًا، بلا معنى”، “تحب قهوة حلوة أو مرّة بلا معنى”، “تفضّل بلا معنى”، “هل أغلق الشباك، بلا معنى”! فصاح القديس بضيق صدر: “بلا معنى بلا معنى بلا معنى؟” وطبعًا لم تستطع (جملو) أن تشرح له، فقط، نظرت إلى خطيبته وضحكت! تزوجت (جملو)، بعد إقامتها عندنا أعوامًا ليست كثيرة، بقريب لها، يعمل كآذن في مدرسة الحرس القومي، شرق حي العوينة، ويعيش في غرفة صغيرة فيها، حيث عاشت وأنجبت عددًا من الأولاد، مبقية على صلة وطيدة معنا، تزورنا من حين لآخر، وتحضر معها بعض منتجاتها من اللبن والزبدة لتبيعنا إياها، إلى أن تزوجت إحدى بناتها من ضابط شاب، وتطوّع كلا ابنيها في الجيش، وبات، لا يليق بها شيئًا كهذا.

(مروة) أقرب ما تكون إلى ظل

لم نطل السكن في حارة (الدعبول)، خمسة أعوام أو ستة على الأكثر، انتقلنا بعدها، عام (1965-1966م) إلى بيت آخر أفضل وأوسع يقع في مشروع تجميل الصليبة نفسه، الذي سنحيا فيه، أنا وأخوتي الأربعة، حتّى بعد أن تفرقنا، إثر زواج أبي بعد أربعة أعوام من وفاة أمي، وانتقاله لبيت آخر يبعد كثيرًا منا، ليعيش كل منا في بيته الخاص مع عائلته الخاصة، حتّى اليوم. ما عدا أختي مرام، التي سافرت، منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، إلى فرنسا عندما تزوجت من ابن جيران لنا لديه منحة دراسية في إحدى جامعات باريس. لحق بها، أخي الأصغر رفعت، الذي كان أول طلائع الشباب اللاذقانيين المهاجرين إلى السويد، في العام الأول من القرن الجديد، وكل منهما بقي عالقًا في مكانه وإن لأسباب مختلفة.

وكان ذلك البيت يقع في بناء عجيب أشبه بمستعمرة تجمع شتى أصناف الناس، مكوّنًا من ثلاث كتل معمارية، على شكل نجمة ثلاثية الأضلاع، تتشارك في نقطة التقائها، درجًا واحدًا، يطلق على هذا كله، جزافًا: بناية العقيد (كاظم زيتونة)، الشخصية العسكرية المهمة فيها. وكان من بين جيراننا، عائلة علوية، سيدتها، أخت ضابط من أهم ضبّاط سوريا حينها، دون أن يؤثر هذا أدنى تأثير في علاقات الجيرة بينها وبين العائلات الأخرى، وذلك لأنها، ومعها جميع أفراد الأسرة، كانوا آخر من يظهر ذلك. علموا بحاجة أمي المعلمة ذات الخمسة أولاد، إلى فتاة تساعدها في البيت، فاتفقوا مع والد الفتاة التي كانت تخدم في بيتهم، على احضار ابنته الثانية لعندنا. أذكر جيدًا ذلك اليوم الذي جاء فيه هذا الرجل، ومعه (مروة) النحيلة المنحنية الرأس، وقد بدت أصغر مما قيل لنا عمرها. أذكره جالسًا مع أمّي في غرفة القعود، يقول إنه ما كان ليضع ابنته عندنا لولا توصية السيد (أبو ابراهيم) جارنا، ولولا معرفته كم أننا عائلة محترمة! كما لا أنسى تكذيبه واستنكاره الشديدين للخبر الذي كان يشغل العالم آنذاك، وهو هبوط الأميركيين على القمر، الذي لم أفهمه، إلا بعد أن عرفت، وكان هذا بعد سنين كثيرة، أن ذلك كان يتعارض، بظنّه، مع عقيدته!

عاشت (مروة) معنا، أقرب ما تكون إلى الظلّ! رقيقة وصامتة، بالكاد يسمع لها صوت. تشارك أختي قصصهما وأسرارهما، دون أن يظهر عليها أي رغبة بالقيام بأي دور مشابه، كأنها كانت تعلم أن هذا ليس لها. ولكن عندما أبدت اهتمامًا عاطفيًّا بأحد شباب الجيران، اختارت أجملهم على الإطلاق، دون أن تخبره، ودون أي محاولة للتواصل معه! لدينا صورة وحيدة لها، جالسة تقلّب صفحات مجلة ما، حليقة الشعر! وذلك بسبب إصابتها بالقمل، لا ندري من أين جاءتها. فكانت أول وآخر فتاة تعمل لدينا، قصصنا لها شعرها. غادرتنا لتتزوج، كما قيل لنا، من مساعد في الجيش، بعد هذا سمعنا عنها أخبارًا متفرّقة ومتباعدة، بأنها أنجبت أولادًا صاروا بدورهم ضبّاطًا، وأنها باتت امرأة ذات اعتبار. غير أنها، أو أيًّا من أبنائها، لم يتواصلوا معنا أبدًا، كما أني، وبعد سنين عديدة، خلال زيارة عمل لي لقريتها، أبديت رغبتي في لقائها، فأُخبرت بأنه من الممكن ألا يكون هذا مستحبًّا على الإطلاق. ولليوم، وأنا أكتب هذه الكلمات، أشعر برغبة صادقة في رؤيتها!


(بهيجة) كأنها سيدة البيت

(بهيجة) ماذا؟ كالعادة ما كان يهمّنا أن نعرف! معها ذهبت مرحلة الخادمات، وجاءت مرحلة اللاجئات! أختان صبيتان من دمشق، حكم لهما قاضي الأحوال المدنية، بالابتعاد من أبيهما، المتهم بالتحرش، واللجوء إلى خالة لهما تحيا في اللاذقية. إلا أنهما بعد مكوثهما عند هذه الخالة أيامًا معدودات غادرتاها. الصغيرة، ذات الجمال الصاعق، عادت لدمشق، و(بهيجة) المتوسطة الجمال والبالغة من العمر (25) عامًا، لم تجد أحدًا تستنجد به سوى الاتحاد النسائي، فما كان من أمي أمينة سرّ فرع الاتحاد في اللاذقية حينذاك، إلا أن جاءت بها إلى بيتنا، على أن تقيم معنا، حتى تجد حلًّا ما لمشكلتها. كانت (بهيجة) فتاة ذات تربية شامية بكل معنى الكلمة، بأيام قليلة برهنت على أنها طباخة ممتازة، وخياطة تكاد تكون محترفة، تخيط لأختي تنانير وفساتين، فتركتها أمي تتصرف وكأنها سيدة البيت. إلى اليوم الذي أخذت فيه حقيبتها وغادرتنا دون أن تُعلم أحدًا، فلم نرها أو نسمع عنها، حتّى ذلك اليوم، الذي دخلت البيت، مع رجل، أحمر الوجه، وكثير الجلبة، يحمل بين يديه علبة حلويات طرابلسية، وهو يصيح ضاحكًا: «أين هو شكيب مصري هذا، الذي تهدّدني زوجتي (بهيجة) به؟».

اسمه (حمود سلالم)، عضو مجلس الشعب السوري آنذاك. صديق شخصيات سياسية وعسكرية مهمة، كتبت أسماءهم ثم محيتها، وكذلك مع العديدين من الكتاب والشعراء، كحنا مينه، وشوقي بغدادي، وممدوح عدوان، وعلي الجندي وسواهم. الذين كان يلتقيهم في دمشق ويستضيفهم، آكلين شاربين نائمين، في مطعمه (عين النبع) في جبلة. كلّ هذا أدى لقيام صداقة عائلية جميلة بيننا وبين عائلة (بهيجة) الجديدة، وصار عندنا عادة أسبوعية أن نمضي بسيارتنا البيجو الستيشن الذهبية إلى جبلة، مع جدتي وأحيانًا خالي (خالد) للعشاء والسهر عندهم، أنجبت (بهيجة) طفلين قبل أن يموت (حمود سلالم) بسكتة قلبية مفاجأة، ذلك الرجل الكريم، وذو النخوة، الذي سمعته يقول بداية أحداث الثمانينيات في سوريا: «سأفرح لو ينتصرون، ولا يهمني بعدها إن قتلوني». لن أنسى هذا ما حييت!

(زهيدة) ناقمة على العالم

اللاجئة الثانية، بقصة شبيهة، أبوها من عائلة سنّية معروفة في المدينة، تزوج، عن كبر، امرأة (علوية) وأنجب منها ثلاثة أولاد، ابنتين وصبي، ثم توفي! بعد وفاته تزوجت أرملته من رجل قريب لها، اشترط عليها هجر أولادها الثلاثة، ففعلت مضطرة، بعد أن سلمتهم لأقرباء زوجها الراحل. لكن العم الذي تكفّل برعاية (زهيدة) لم يستطع معها صبرًا أكثر من أشهر، فتركت بيته مطرودة من قبل زوجته، لتلتجئ إلى بيتنا مباشرة، بعد أن وصل إلى مسامعها أن أمي تساعد مثيلاتها دائمًا. وهذا ما حصل، دخلت (زهيدة) بيتنا، عمرها يزيد على العشرين، وعقلها يقل عن العاشرة! وفي قلبها نقمة لا حدود لها على كل شيء في العالم! قصيرة، ولولا القليل لكانت ذات ملامح قزمية!

أذكرها واقفة على المرآة تقول بصوت مرتفع: «لماذا يا الله لم تعطني عشرة سنتمترات طول؟» لم تكن تعرف تأدية أي من أعمال البيت، ما عدا الكناسة، التي كانت تقوم بها، كيفما اتفق، وهي تتمتم وتلعن حظها! تخرج من البيت دون أن تعلم أحدًا، لا إلى أين ولا متى ستعود. مسبّبة لنا مشكلات كثيرة مع جيراننا ومعارفنا، حتى إنها كادت توقع بيني وبين صديقي الشاعر (محمد سيدة)، لولا أنه بدوره وقع في مشكلة مع جيرانه بسببها. كانت تضع في جيبها أي شيء تطاله يدها، مهما يكن، باعتبار أنها تستحقه، حتى خاتم جدتي الذي ضاع ولم نعلم أين، إلا بعد أن أعاده لنا أحد أولاد الجيران الذي أعطته الخاتم.

مرة، بعد غيابها أكثر من أسبوع، جاءت الشرطة لتسألنا عن علاقتها بنا، فقد ألقوا القبض عليها مع مجموعة من الشبان والفتيات، في إحدى شاليهات المدينة السياحية، للاشتباه بممارسة أعمال غير أخلاقية. ولحسن الحظ، ما إن عرف الشرطيان المكلفان بالتحقيق أني ضابط مجنّد أخدم على الجبهة، حتى اكتفيا ببعض أقوالي وذهبا. وقصص كثيرة أخرى، لا أظن ذكرها يفيد أحدًا. ولكن (زهيدة) في النهاية استطاعت أن توقع في غرامها شابًّا طيبًا وتتزوّج منه، لتنجب أطفالًا في منتهى الجمال، كانت تأتي بهم إلى بيت أختي (منى) التي كانت على خلاف دائم معها، حتى إنها يومًا صفعتها صفعة لم تنسها أختي أبدًا، وأحيانًا نادرة إلى بيتي، لأنّ زوجتي الغريبة عنها، بعد زيارة أو زيارتين، راحت تعطيها ما تطلب عند الباب، دون أن تدخلها البيت. البارحة، وبعد كل هذه السنين، لا أقل من أربعين سنة و(زهيدة) لم تقطع علاقتها بنا، مرّت على محلّنا لبيع الأحذية، والتقطت أغلى حذاء معروض على الواجهة، وحملته من دون أن تستأذن أحدًا، حتى العاملة فيه، على أنها ستقدمه هدية لحفيدها، فهي، كما قالت، مسافرة لقضاء مدة أعياد الميلاد ورأس السنة، عند ابنتها المتزوّجة من عامل سوري يشتغل في بيروت!


(شفيقة) جنية حقيقية

اللاجئة الثالثة والأخيرة.. فتاة لم تتجاوز الرابعة عشرة، نحيلة، بثياب أقرب للأسمال، اقتحمت حافية، بوابة مدرسة السادس من تشرين الابتدائية التي كانت أمي مديرتها، هاربة من تحرشات أبيها في حي (الغراف) آخر حي الرمل الجنوبي، بعد خلو بيتهم بسبب سفر أمها وأختها الكبيرة إلى لبنان لإجراء عملية إجهاض غير شرعية للأخت. فكان على أمي الاتصال بالشرطة وإعلامهم. وبعد التحقيق وكتابة محضر الضبط، جاءت بها، على رغم معارضة بعضنا، إلى البيت. وما إن استيقظت (شفيقة) في اليوم التالي، حتى تبين أنها جنّية حقيقية قادرة على فعل أي شيء، تنظيف الطوان وترتيب الأغراض المتكوّمة فوقه منذ أعوام، تعزيل المطبخ وتنظيف فرن الغاز والبرّاد، توضيب الثياب في الخزن، الشتوي على حدة، والصيفي على حدة، جمع فردات الجرابات وتستيفها في الأدراج! مسح الغبار عن سطح كل شيء وجعله يتلألأ، كناسة وشطف ومسح أرض ودرج البيت، بهمة وسعادة ظاهرتين!

استوعبت خلال أيام كل شيء ما عدا أننا لا نعرف التكلم بالتركمانية مثلها، هي القادرة على التكلم بالعربية مثلنا! ولكن هذا لم يستمر أكثر من عام أو عامين، مرضت حينها أمي، لأول مرة في حياتها، وماتت بعد ثلاثة أشهر من المعاناة الصامتة. كنت خلالها خارج البلد. عدت، كابن ضال، ولم أجد أمي ولا (شفيقة). علمت أنها بعد مغادرتها لنا تنقلت لبيوت عدة، منها بيت خالي (غاندي) القريب من بيتنا، وكذلك بيت صاحب الملحمة التي تقع في الحي المجاور، وكان من أصول تركمانية مثلها، ثم تزوجت شابًّا كرديًّا، كما أخبرتني أختي وأنا أحاول التأكد بعض ذكرياتي الغائمة عنها، وسكنت في إحدى قرى جبل الأكراد، غير البعيدة، وصارت تفلح وتزرع الأرض وتقطف الزيتون، بالقدرة والهمة ذاتهما اللتين نعرفهما فيها. لاحقًا وصلنا من أخبارها، أنها ولدت أطفالها الثلاثة بنفسها، دون مساعدة أحد، وأن آخرهم هبط من بطنها وهي تعمل في الحقل، فقطعت حبل المشيمة بالحجر! زارتنا مرات قليلة مع أطفالها ذوي العيون التركمانية الجميلة المبطنة، التي ورثوها من أمهم، قوية ومنطلقة كما نعرفها. ثم ذابت كما يذوب الجميع، أسيادًا وخدمًا، رجالًا ونساء، آباء وأمهات وأبناء، في المجرى الهادر لنهر الحياة الجارف.

(ندى) خادمة العالم

كنت أستطيع، ببعض الجهد، أن أختم سرديتي هذه، بخلاصة ذات عبرة ما. إلا أني كما يجب على الأدب والفن بمختلف أنواعهما، ما عدا التلقيني، وقد يشمل هذا البريختي، سأدع استخلاص ذلك، للقرّاء أنفسهم، ليقوم كل منهم بالوصول إلى الاستنتاج الذي يراه من خلال معرفته وثقافته، وربما أيضًا، وهذا ما لا مهرب منه كما يبدو، سرديته الخاصة. بكل ما يمكن أن تختزنه من عاطفة، وألم، ومظلومية، يؤدي غالبًا إلى تفتق جراح شخصية، ومن الممكن جماعية، دامية. وها أنذا، كما بدأت بقصيدة، أنهي بقصيدة، ولكن ليست لي هذه المرة، بل للشاعرة السورية (ندى منزلجي)، من مجموعتها الأخيرة “بقع داكنة على ظاهر الكفّ” (2022)، وقد كتبتها بلسان خادمة أو خادمات عرفتهن الشاعرة، متلبّسة التفاصيل الدقيقة لأحوالهن وأحاسيسهن. فهي أيضًا، من عائلة لاذقانية محدودة الدخل، عملت عندها خادمات عديدات، كنّا قد قرأنا عنهن في أكثر من رواية من تأليف أمّ الشاعرة، الروائية المعروفة (ناديا شومان)، وأخصّ بالذكر روايتها الثانية: “خُطى كُتبت علينا” (1997)، التي تقدّم بدورها سرديّتها الإنسانية والخاصّة في آن، عن تلك العين البيضاء وهذا الجرح الممضّ:

خادمةُ العالم

أسكنُ هنا منذُ زمنٍ بعيد

هنا.. مكانٌ ما!

لا وقتَ لَدي للتُرّهاتِ

عملي أكنسُ القذاراتِ

ألمّعُ المخازي فتبدو كأنها ارتُكبَتْ للتوّ

أفتحُ مصارفَ البيت لتجرفَ مزيدًا من صرخاتِ الألم

أمسحُ الواجهاتِ الكبيرةِ من بصماتِهم

أزيلُ آثارَ الوجوهِ اللزجَة عن الزجاجِ

لديّ وظيفتي

أنا خادمةُ العالمِ

أعملُ ليلَ نهارَ

أسترُ نفسي بأثوابٍ واسعةٍ تصدّقت بها سيداتي الكثيراتُ

أرتدي واحدَها فوقَ الآخرِ

ثوبٌ مفتوحٌ من الخلفِ فوقَ ثوبٍ مفتوحٍ منَ الأمامِ

كيما تضيعَ التفاصيلُ

لا أعرّي جسدي المنكوبَ ولا أغتسلُ

أحتفظُ بما رأيتُ وسمعتُ

الأوساخُ تاريخٌ رديفٌ للعالمِ

جزّوا شعري المتلبِّدَ مثلَ ليفةٍ قديمةٍ

واستسلمتُ

كما أفعلُ دائمًا

لستُ أدري ما الذي خافوا منهُ

وأغرَقوه بالكاز؟

أرواحي الطفيليةُ مكتومةُ القيدِ

لا تمتصُّ دمَ سواي.

(اللاذقية 25/12/2022)

اضطررت، كارهًا، لتبديل بعض الأسماء التي ذكرتها في النص، لأسباب لا تُخفى على أحد. إلا أن بعضها الآخر صحيح حرفيًّا.




مجلة الفيصل السعودية

يقول محدّثي :
لمّا تخرج الكلمة للعلن …فلا سلطة لك عليها …
كل يرميها بسهم عينه ..

 

ماهر حمصي

إبداع بلا رتوش
إشترك في القائمة البريدية