” سروالُ بَلقيس ” للروائي صبحي فحماوي .. قراءة وتحليل: د.عبدالجبار العلمي

رواية التَّحدي والمُقاوَمَة

د.عبدالجبار العلمي
كاتب وناقد مغربي

تَرْصُدُ روايةُ ” سروال بلقيس ” للروائي الأردني ـ الفلسطيني صبحي فحماوي معاناة الشعب الفلسطيني في المخيمات ، وتصور بكثير من الصدق والواقعية والمرارة الوضع اللإنساني الذي يعرفه واقع الحياة فيها ، وذلك إثر تعرضه للطرد والتشريد والتهجير من لدن الاستعمار الإسرائيلي المحتل لأرضه بدعم من العصابات الصهيونية وحلفائها من القوى الاستعمارية العالمية سنة 1948 .

ومن المفيد الإشارة هنا إلى أن القضية الفلسطينية موضوعة حاضرة في كل أعمال الكاتب الروائية: “عذبة ” ( 2005 ) ـ “حرمتان ومحرم” ( 2007 ) ـ ” الإسكندرية 2050 ” ( 2009 ) ـ “قصة عشق كنعانية ” ( 2009 ) ـ ” باب الهوى ” ( 2014 ) ـ ” سروال بلقيس “( 2014 ) .

إن فلسطين هم يؤرقُ الذاتَ الكاتبة ، وجُرحٌ نازفٌ في أعماقِها لا يكفُّ أبداً عن الوخز والإيلام.
تتألف رواية ” سروال بلقيس ” من فصل استهلالي قصير غير مرقم ، وسبعة فصول مرقمة من ( 1 إلى 7 ) ، يقدم السارد العليم في الاستهلال أهم الشخصيات الروائية ، ويقحمنا في فضاء المخيم البائس الذي تدور في أحداث الرواية . والملاحظ أن الكاتب لا يذكر اسم البلد المجاور الذي أقيم على هامشه المخيم ، وهو بذلك يشير إلى أن كل المخيمات في البلاد العربية المجاورة سواء ، تعيش نفس الأوضاع المزرية البائسة ، ونفس المعاناة الأليمة القاسية . أما الفصول السبعة ، فتشتمل على ثلاثة مسارات سردية رئيسية:

المسار السردي الأول :

يمتد على مدى فصلين من الرواية : الأول والثالث ، و يتعلق برحلة ثلاث نساء من المخيم ، يقمن بها قبل انبلاج ضوء الصباح في يوم من أيام الربيع من سنة 1951،  ليجمعْن بقايا حبات الزيتون وبعض الأعشاب البرية لسد جوعهن وجوع عيالهن . ” لا يوجد شيء اسمه  ( سوق عمل ) ، ولكن الناس تريد أن تأكل وتعيش ، والجوع مر ياعالم ! ” ( ص : 22 ) ،  ثم يعدن إلى المخيم ليهيئن بضاعتهن  لعرضها للبيع  في سوق المدينة. وهؤلاء النساء الثلاث هن : بلقيس المرأة الخمسينية المعروفة بصلابتها وتحديها وجرأتها ، وحمدة المحمودية الأرملة الأربعينية التي استشهد زوجها دفاعاً عن الوطن ، وترك لها ثلاثة أطفال ، وصالحة السمراء الثلاثينية النازحة مع زوجها أبو خضر من مدينة الناصرة التي أخذت قسطاً لا يستهان به من التعليم في مدرسة مدينتها.

المسار السردي الثاني :

إذا كان المسار السردي الأول رصده المؤلف لنساء المخيم ، فإن المسار السردي الثاني خصصه لرجاله ، ويمتد على مدى فصلين هما : الثاني والرابع . ويتم التركيز فيه على معاناة الرجال في جحيم كسارات الحجارة التي هي المجال الوحيد الذي يتاح لللاجئين العمل فيه . لقد كانت الكسارات في السابق فضاء مخصصاً للمحكوم عليهم من لدن الحاكم العسكري الإنجليزي ، أما في زمن اللجوء والتهجير والتشريد ، فقد أضحى فضاء للعمل الشاق ، يدخل إليه رجال المخيم تحت ضغط وإكراه الحاجة بعد أن سدت في وجوههم أبواب الرزق في أعمال أخرى ( ص : 71 وما بعدها ).  في هذا الفضاء الجهنمي ، يعمل هؤلاء الرجال في ظروف غير إنسانية ، يتعرضون للاستغلال والمهانة وخطر الموت في أية لحظة. إنهم ” يتضاءلون بقيمهم الإنسانية ليصبح كل منهم بحجم نملة ، وقد يكون بقيمة نملة ” ( ص : 76 ) ، ومن أبرز الشخصيات التي تمثل رجال المخيم العاملين في الكسارات أبو رزق زوج بلقيس ، ووحيد الأرملة ابن أحد الشهداء.

المسار السردي الثالث :

: يختص برصد حياة مجتمع المخيم ومعاناته المختلفة ، ويمتد على مدى فصول ثلاثة : الخامس والسادس والسابع. ويعج مجتمع المخيم بالشخصيات ، بالإضافة إلى نظيرتها  الرئيسية التي تمت الإشارة إليها سابقاً ، ومن أهمها أبو خضر البغل زوج صالحة السمراء ، النازح من قريته صفورية بعد أن  قصف المحتلون بيته ، وقتلوا أباه  ( ص : 138 وما بعدها ) ،  وشخصيات أخرى تعتبر ثانوية ، ولكن لها وظيفتها في تأثيث الفضاء البائس للمخيم ، وهي أبو الفيلة حارس البئر والمزرعة المصاب بشلل نصفي جراء صدمة عصبية أصابته أيام الهجرة ( ص : 130 ) ، و أبو مسعد الرجل الطيب الذي اتهم بالسرقة وتعرض لتعسف رجال الأمن ( ص : 146 ) ، وشفصانة  العرجاء ذات السمعة السيئة في المخيم ( ص : 150 ) ، وأبوعطا حنجل صانع الأحذية والصنادل من العجلات المهترئة. ( ص : 163 ) 

من الملاحظ أن هذه المسارات السردية الثلاثة التي تشكل المحكي الإطار ، تزخر بالمحكيات الصغرى المضمنة ، وظيفتها ” توسيع الحكي ” (1 ) ، وتسليط المزيد من الضوء على الشخصيات للتعرف على حياتها والأوضاع البائسة التي تعيشها في المخيم، أو على حياتها الماضية في أرض الوطن قبل الاحتلال ومحنة الخروج. إنها كما يقول كولن ويلسن ” أشبه ما تكون بعدسات التصوير المقربة والمكبرة التي تساعد القارئ على استجلاء جزئيات الأحداث وأدق ملامح الشخصيات والغوص في الفضاء العام للرواية. ” ( 2 ) وهي ترد عن طريق الحوار أو تقنية الارتداد أو من خلال صوت شخصية من الشخصيات.
يقدم لنا صبحي فحماوي من خلال هذه المحكيات الصغرى والشخصيات التي تَعج بها الرواية ، صورة حية نابضة عن حياة المخيمات الفلسطينية في السنوات التي أعقبت النكبة، ( 3 ) تجسد مأساة الشعب الفلسطيني المتمثلة في ” طرد شعب كامل من أرضه ، بوسائل عديدة من الإرهاب. ” (4 ) لكي يعيش واقعاً قاسياً رهيباً أشبه بالجحيم . إن جميع سكان المخيم من اللاجئات واللاجئين الفلسطينيين ، حكم عليهم بالسجن مع الأشغال الشاقة ، فالنساء يعملن في جمع الأعشاب البرية وبعض حبات الزيتون في رحلة يومية شاقة ، تبتدئ من أول ساعات الصباح إلى آخر المساء ، والرجال يعملون أعمالاً شديدة القسوة ، من أشدها وأخطرها العمل في كسارة الحجارة التي لا تقل عن الجحيم عذاباً. ” ولو دققنا في عذابات هذه الأعمال ، فلن نجد أشقى منها إلا شقاء الجحيم نفسه ” ( ص : 72 ) ، وقد عبر غسان كنفاني بطريقة رمزية عن هذا الجحيم الفلسطيني في روايته ” رجال في الشمس ” من خلال الرموز الدالة التالية : الشمس المحرقة ـ الصحراء الملتهبة ـ الخزان الجهنمي. ( 5 )
على مستوى الرؤية السردية ، نجد أن الذي يهيمن على السرد راو عليم ، يروي بضمير الغائب ويعلق على واقع الشخصيات ويتعاطف معها ويدافع عن مواقفها ويعلن عن آرائه الخاصة. نقرأ تعليقه على وضعية اللاجئ الفاقد للهوية ” كأن اللاجئ ـ ياحرام ـ موقوف حتى عن اسم وطنه ، ولا يُعترف له بوطن ، أو أنه ليس وطنياً مخلصاً بالمرة ن ما دام قد تشرد بهذه الطريقة البشعة ” ( ص : 104 وما بعدها ) ، ونقرأ تعليقه المشحون بنغمة التمرد ، مدافعاً عن حمدة المحمودية الأرملة التي دفعها الحرمان الجنسي بعد ثلاث سنوات من استشهاد زوجها في أرض الوطن ، إلى علاقة جنسية عابرة مع الشاب مسعف ، عانت بعدها من الخوف من الفضيحة فتنعت بالعاهرة ” أعتقد أن الحياة هي العاهرة ، ذلك لأنها لا تترك الزوج لزوجته ، بل تبعده بأبشع الوسائل … ” ( ص : 43 ) ، غير أن الروي العليم يتخلى في بعض المقاطع السردية عن مهمة السرد لرواة ـ شخصيات مشاركة في الحدث ، وأهم هؤلاء الرواة : بلقيس ـ حمدة المحمودية ـ صالحة السمراء ـ أبو رزق ، فبلقيس تروي حكاية عملها المضني إلى جانب نساء أخريات من المخيم في حقول الفلاحين ” الوطنيين ” ( ص : 54 ) ، وتتبادل الحكي في حوارها مع رفيقتيها حَمْدة وصالحة حول تجاربها وتجارب غيرها مع الحيات المرقطة المميتة أيام الحصاد القائظة ( ص : 45 ) ، كما تحكي عن قطفها بعض حباتِ الزيتون في غفلة عن أصحابه من ” الوطنيين “، مبررة فعلها بأنها إنما تأخذ ” حق الأيتام من أبناء المخيم على مائدة هؤلاء ” الوطنيين المنعمين ” ( ص : 55 و 62 ). وتسرد حمدة المحمودية قصة لقائها الجنسي العابر مع الشاب مسعف ذي الثامنة عشر ربيعاً تحت أشجار المزارع الوارفة الظلال بعد طول حرمان ، ومعاناتها بعد ذلك من الشعور بالإثم ، والخوف من الفضيحة ( ص : 38 ـ 42 ) ، كما تسرد صالحة السمراء ذكرياتها عن الأيام السعيدة مع زوجها أبو خضر في قرية صفورية في بيت نظيف يطل على بحر عكا ( ص: 50 ) ، وذكرياتها عن أيام الدراسة ومعلمتها بسمة المسيحية النصراوية التي كانت تدرس تلميذاتها قصائد إبراهيم طوفان الوجدانية الجميلة ، وتعرفهن على الموسيقى الكلاسيكية الغربية ، وتحفظهن النشيد الوطني الفلسطيني الجميل الذي ألفه الشاعر سنة 1934 ( ص : 63 وما بعدها ) . أما أبو رزق ، فيتولى مهمة السرد حين يريد أن يسري عن رفاقه في الكسارة ، ويخفف عنهم معاناة العمل بها لحظة الاستراحة ، حيث يحكي لهم حكايات مسلية تخرجهم مؤقتاً من عالم الكسارة الجحيمي الذي يعيشون فيه ( 78 وما بعدها )
والملاحظ أن الراوي الرئيس في الرواية، يسلم دفة السرد لهؤلاء الشخصيات، لكي تحكي بنفسها عن أحداث تتعلق بذكرياتها الحميمة أو أسرارها الخاصة .


على مستوى اللغة ، نلاحظ أن الرواية تعتمد على التعدد اللغوي ، ويمكن أن نحدده كما يلي :

اللغة العربية الفصيحة ، وهي التي تهيمن على الرواية ، ويستخدمها المؤلف في سرد الأحداث ووصف الشخصيات والفضاءات.
لغة تمزج بين الفصيح والدارج ( اللهجة الفلسطينية ) ، ويتم استخدامها في بعض المقاطع السردية ، وفي بعض الحوارات بين الشخصيات.
اللغة الدارجة الفلسطينية التي فرضتها طبيعة الشخصيات الواقعية التي تنتمي إلى بسطاء الناس في مجتمع المخيمات ، وغالباً ما تستخدم في حوارات الشخصيات أو في سردها بعضَ الأحداث حين يسمح لها الراوي العليم بتولي عملية السرد ، كما تمت الإشارة إلى ذلك آنفاً.

ومما يلاحظ أن الكاتب يستخدم أحياناً معجماً شديد المحلِّية سواء في لغة السَّرد أو لغة الحوار ، يساهم في إضفاء المزيد من الواقعية على الفضاء الذي تدور فيه الأحداث.

من اللافت لنظر القارئ أن الرواية  تزخر بظواهر فنية وأسلوبية أبرزها : الاعتماد على طرائق الحكي الشعبي ـ السخرية ـ أسلوب التشبيه .

1. طرائق الحكي الشعبي

وتتمثل فيما يلي :

التوجه إلى القارئ مباشرة ، يقول الراوي معتذراً عن تحريفه اسم ” عصبة الأمم “إلى “عصابة الأمم المتحدة ضد فلسطين ” : ” أعتذر عن هذا الخطأ الفاحش في هذا الصباح غير الصاحي ، أقصد “عصبة الأمم المتحدة ” ( ص : 72 ) ، ونقرأ في جملة سردية أخرى ” .. يقول الرجل ( أبو رزق ) وهو سائر إلى حتفه .. آسف ، ألم أقل لك إن هذا الصباح نفسه غاف ودائخ ومتلعثم ؟ أقصد إنه كان يقول وهو سائر إلى الكسارة : ” اللهم اجعلني من أول الواصلين ” ( ص : 73 ) ، ولا تخفى نبرة السخرية في كلا العبارتين.
توالد الحكايات وتناسلها : ونجد ذلك في حكايات النساء الثلاث ( بلقيس ـ حمدة ـ صالحة ) عن تجاربهن وتجارب غيرهن من النساء العاملات في موسم الحصاد مع الحيات المرقطة المميتة ، حيث تحاول كل منهن أن تروي حكاية أعجب وأغرب وأكثر هولاً من الأخرى ، وهكذا تتوالد الحكايات كما هو الحال في ” ألف ليلة وليلة ” ( ص : 45 ـ 48 ) . يقول سعيد يقطين: ” إن توالد الحكايات في ألف ليلة وليلة وتناسلها يتحقق زمنياً على أساس الانطلاق من العجيب إلى الأعجب إلى الأكثر عجباً. ” ( 6 )
استخدام طريقة الراوي الشعبي في الحكي ، حيث يروي حكاية فرعية في ثنايا حكيه ، وبعد أن يوقفها في نقطة معينة أو يتمها ، يعود إلى الحكاية الرئيسية . ونصادف ذلك في الرواية حين يوقف السارد العليم سرده عن بلقيس لدى عودتها إلى المخيم من رحلة جمع الأعشاب الصباحية ، ليقدم لنا محكي الفتى الفلسطيني اليافع الذي راودته عن نفسه إحدى النساء ” الوطنيات ” ، ثم يعود لمتابعة سرده عن بلقيس وهي تعرض بضاعتها في سوق المدينة. يقول السارد : ” دعنا نعيد عقارب الساعة إلى الوراء ، لنشاهد اللاجئة بلقيس جالسة في هذا الصباح ذي الغيوم التي بدأت تتلبد في السماء على قطعة قماش مخيطة من عدة أكياس طحين مستعملة .. وإلى جوارها الفلاحة أم يونس بائعة البيض البلدي … القادمة إلى هذا السوق اللعين من قرية مجاورة..” ( ص : 108 ) . والجدير بالإشارة أن الكاتب يقدم لنا هنا مشهداً نابضاً بالحياة عن السوق الشعبي في المدن العربية.

2. السخرية :

تتميز الرواية باستخدام السخرية التي تعتبر من السمات البارزة في كتابات صبحي فحماوي. يواجه بها السارد والشخصيات الروائية واقعاً قاسياً مشحوناً بدواعي الألم والحزن لا قبل لها بمواجهته إلا بالسخرية. إنها “تؤكد أن الشرط الذي ينتج أحزاناً كثيرة ،قادر في الوقت نفسه على إنتاج ضحكات كثيرة تنطلق منه لترتد سهاماً إلى نحره ” ( 7 ) ، ويمكن أن نصنف السخرية في الرواية كما يلي :
السخرية من الواقع المعيش في المخيمات : تقول بلقيس ” ما دمنا صرنا لاجئين ، لا حول لنا ولا قوة ، ولا نملك حتى خبز أولادنا ، فنحن مضطرات لرعي أعشاب الزعتر واللسينة مثل الماعز اللي ترعى في الجبال ! ” ( ص : 54 ) ، وتقول في موضع آخر ساخرة من سروالها الفضفاض الذي أعد بحيث يستوعب داخله أكبر قدر من حبات الزيتون ” هذا سروال بلقيس يجب أن يرفعه أولادي مثل العلم ، ويمشوا تحته ، لأنه هو الذي يطعمهم ويبعد عنهم الجوع ” ( ص : 63 ) ، والملاحظ أن الشخصيات لا تستنكف من السخرية بالذات أو بالغير ، معبرة عن سخطها ونقمتها وعدم قبولها للواقع المأساوي الذي ألفت نفسها في أتونه.
سخرية السارد من المنظمات والهيئات الدولية المنوط بها الاهتمام بشؤون اللاجئين وغوثهم : تصير ” عصبة الأمم المتحدة ” ،”عصابة الأمم المتحدة ضد فلسطين” ، مستخدماً الجناس اللغوي الذي سنصادفه في عبارات ساخرة أخرى في الرواية. وقد وظف إيميل حبيبي هذا الأسلوب البلاغي بشكل ملحوظ ، في روايته الذائعة الصيت “المتشائل” ( 8 )
السخرية من الوضع العربي المتردي المهزوم : يوجه السارد نقداً لاذعاً لمنظمة الجامعة العربية وقممها المتعددة التي عجزت عن توحيد الصف العربي من أجل الخروج من واقع الخيبة والهزيمة ، وذلك حين يصفها بأنها ” تجمع جموع جماعات جمعية قادة القمم العربية المتحفزين للفر والفر ” . لاحظ التلاعب اللفظي في بداية الجملة ، سخريةً من واقع التشتت والتشرذم والعجز عن تحقيق الوحدة التي كانت إحدى مطامح الشعوب العربية ، ولاحظ كذلك استبعاد لفظ الكر ، دلالة على أن هذا الوضع المتردي لا يفرز إلا الهزيمة والنكوص.
السخرية من الإعانة الهزيلة التي تقدمها وكالة غوث اللاجئين : تقول أم الوليد التي شكت لجنة التسجيل في أن يكون طفلها المفطوم ابنها الحقيقي لأنه رفض أن يرضع من ثديها أمامها كاختبار من اللجنة لتتأكد من صحة نسبه إليها : ” وعلى ماذا كل هذا التدقيق والتمحيص والتنقيص ؟ على علبة حليب مجفف في الشهر لكل طفل.. ؟ ” ( ص : 100 )
يورد السارد على لسان الشخصيات في سائر المتن الروائي حكايات تتسم بالطرافة ، وتقطف من شفاهنا الضحكة ونحن في غمار جو المأساة.

3.أسلوب التشبيه :

يستخدم الكاتب أسلوب التشبيه في الرواية بشكل لافت للانتباه ، يجعل منه ظاهرة أسلوبية تستحق وحدها الدراسة والتحليل. ونمثل لهذا الأسلوب بالجمل التالية : ” تبدو الخيام كبقايا مهاجع لواء عسكري منكسر ، جره الخراب ، فمر مستسلماً مخذولاً مدلدل الآذان في وديان فلسطين وسفوحها ” ـ ” تمعن النظر إلى خيمتها ، فتتخيلها على هيئة جواد متهالك هده الزمان ، فوقف مرتعشاً على وشك الانهيار ” ( ص : 14 ) ـ يتكاثف المشردون من شواطئ بحر فلسطين ، مثل أسراب طيور مكسرة الأجنحة فلا تستطيع الطيران المحلق ” ( ص : 19 ) ـ يمر ” العمال الرجال ” مثل ” عاملات النمل ” لا يتوقفون في ذهابهم وإيابهم ” ( ص : 76 )

 والملاحظ أن التشبيه يوظف لبيان أحوال اللاجئين في المخيمات الفلسطينية ، وما يعانونه من انكسار وذل وشظف العيش.

  من القضايا التي تعالجها الرواية ، وتشغل بال شخصيات المخيم البسيطة ، وتؤمن بها إيماناً راسخا ، قضيتان : قضية حق العودة وقضية المقاومة كسبيل لتحقيق العودة وتحرير الوطن. يسأل رزق أباه : ” ترى كم شهر باقي لعودتنا يابا؟ ” فيقول الأب : ” وقل اعملوا فسيرى الله عملكم .. يجب أن نعمل يا ولدي لنحقق العودة ” ( ص : 180 ) ، وتقول أم صالحة : ” لا بد من العودة ، مهما كلف الثمن ، فالأرض أغلى من العرض” ( ص : 95 )

وتقول بلقيس ” وهي تحدث نفسها بأن المقاومة وليس الاستسلام هي خير وسيلة للبقاء ” ( ص : 59 ) ، وأبلغ تعبير عن الروح المقاومة للشعب الفلسطيني ، هو ما كتبه بعفوية وبراءة الفتى رزق الذي يمثل الجيل الصاعد في دفتر إنشائه : ” أحبك ياوطني الغالي / أحبك يا فلسطين المعتقلة خلف أشواك الحدود / وأنا مستعد للتضحية بروحي في سبيل العودة إليك أنا وأهلي كلهم .. ” ( ص :  179 )

بقي أن أقول: إن صبحي فحماوي قدَّم في هذه الرواية ، صورة مشرفة للمرأة الفلسطينية الكادحة في المخيمات وأرض الشتات ، وكفاحها المرير في خضم واقع قاس رهيب من أجل البقاء . إن بلقيس مثال للمرأة الفلسطينية البسيطة القوية المتحدية المقاومة ، وهي تذكرنا بشخصية ” أم سعد ” في رواية غسان كنفاني التي تحمل هذا الاسم.

إن الرواية في رأيي تكريم للمرأة الفلسطينية البسيطة الصبور المتحدية، المقاومة بكل أشكال المقاومة من أجل البقاء ، لتصنع أجيالا من الأبطال ، تفخر بمقاومتهم العدو ، وباستشهادهم من أجل الوطن. ومن هنا جاء إهداء الكاتب :

” إلى الأم بلقيس شخصياً

   رمزاً للشقاء والتحدي “


الهوامش :

[1] ـ  محمد معتصم ، بنية السرد العربي ، منشورات الاختلاف ـ الدار العربية للعلوم ـ ناشرون ـ دار الأمان، ط. 1 ، 2010 ،  ص : 74 .

[2] ـ  أحمد اليبوري ، دينامية النص الروائي ، منشورات أتحاد كتاب المغرب ، الرباط ، ط. 1 ، 1993 ، ص : 48 .

[3] ـ  وهي الفترة نفسها التي يتحدث عنها  غسان كنفاني في رواية ” رجال في الشمس ” ( انظر : رضوى عاشور ( د ) ، الطريق إلى الخيمة الأخرى ، دار الآداب ، بيروت  ، ط . 2 ،  1981 .

[4] ـ  عادل الأسطة ( د ) ، أدب المقاومة / من تفاؤل البدايات إلى خيبة النهايات ، مطبوعات الهيئة الخيرية ، غزة ، ط . 1 ، 1998  ، ص : 70 .

[5] ـ انظر :  الطريق إلى الخيمة الأخرى  ، م. س .  ذ ، ص : 63 وما بعدها .

[6] ـ الرواية والتراث السردي / من أجل وعي جديد بالتراث ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء ، ط. 1 ، ص : 35 .

[7] ـ فاروق وادي ، ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية  ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، ط . 1 ، 1981 ، ً : 123

[8] ـ نفسه ، ص : 135 . عنوان الرواية الكامل ” الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل ” ، وقد صدرت في عدة طبعات ، من بينها طبعة روايات الهلال ، العدد : 474 ، يونيو 1988 .


يقول محدّثي :
لمّا تخرج الكلمة للعلن …فلا سلطة لك عليها …
كل يرميها بسهم عينه ..

 

ماهر حمصي

إبداع بلا رتوش
إشترك في القائمة البريدية