الروائي الدمشقي خيري الذهبي الموت في مدن المنفى .. لـ: فاتن حمودي

فاتن حمودي
شاعرة سورية

خيري الذهبي، أحد وجوه دمشق، و ذاكرتها،  صائغ الصورة والكلمة، اسوارة الرواية الشامية، “حسيبة” ، و هو الذي عرف معنى هذه المدينة، خصوصيتها، و تاريخها العميق،  و ما تواجهه اليوم من إنزياح عن هويتها و جمالياتها، رحل اليوم و هو يحمل جرح المدينة و نهرها، و سؤال: هل سنرى الشام؟

قال :”لا يمكن إيجاد حل للمنطقة العربية إلا باجتثاث الطائفية ومن يروّج لها، فالطائفية في المشرق العربي هي التي تغذي جميع الأحزاب الدينية”، كلام قاله الروائي خيري الذهبي في إحدى الحوارات معه،  رحل اليوم، وكلما غادرنا أحد نتساقط ويسقط  شيء كبير من روحنا.

التقيته في دبي في أحد المعارض التشكيلية، و بدأت ألتقط له صورا ، ثم كانت لقاءات متعددة في  “اللقاء السوري”، هو و  نبيل المالح  و نخبة من السوريين من أعلام الفكر و الثقافة  والأدب.

كانت ابتسامته دائما رغم الجرح، و كان حسه النقدي العالي في قراءة المدن العربية، ودائما تحضر دمشق كلوعة، “هل سنعود إليها، هل سنرى مكتباتنا و الشجر الذي زرعناه؟”، لهذا ليس غريبا أن يكتب روايته “الجنة المفقودة”.

 عرفته بحضوره الراقي و اللطيف ، مداخلاته المتعددة والتي تتسم بانفتاح الأفق ،  خرج من دمشق إلى عمان و دبي و من ثم باريس،  هكذا تتحول المنافي إلى  لمة أصدقاء و أحلام، تجعلنا نلتفت دائما إلى دمشق، التي يعمدون إلى إدخالها في متاهة اللاحل، والغربة عن جمالياتها وتاريخها  وفنونها ، و تغريب الذاكرة والهوية وضرب الأسرة والبيت ، فنموت غرباء وكفى.

شكّلت  دمشق لغته، و أبطاله، و شخصياته، ، كتب”حسيبة”، والتي تحولت إلى دراما تلفزيونية وفيلم سينمائي برؤية ريمون بطرس

كتب الكثير من الأعمال و المقالات، و دائما  يحضر سؤال الفقد والهوية و المكان، والتاريخ، وهو ما طرحه في ” ملكوت البسطاء”، و كما قال في إحدى ندواته:”حاولت فيها قراءة خروج القرية الشامية من الرحم العثماني وآلام هذه الولادة العجيبة”و في  رواية «فخ الأسماء» حاول قراءة الدكتاتور المسلم، وكيف صنع نفسه، وكيف صنعناه، وخلدناه، وأسطرناه”.

و هو ما دفعه للتساؤل:”لماذا  كانت كل يوتوبيات الحضارة الاسلامية دينية منذ مدينة الحسن الصباح حتى مدينتي التقي جابرصا وجابلقا التي أخذت تجليها في مدينة الطالبان اليوتوبيا. ترى، أهناك جواب؟ أم سيظل ايجاد السؤال هو الجواب؟”.

وهو المشاء الذي حكى عن القرية والمدينة، من كفر سوسة، مرورا بالقنوات، و أحياء دمشق، و اضرحة الأولياء، عن الخرافات ، عن الحارات الصغيرة ودائما المرأة بطل و عنوان في رواياته، و قد شكّلت صورة الأم حضورا قويا أمام  الأب الغائب..

الرواية حين تتعانق مع السيرة الذاتية، و هو الطفل الذي يسرد حكاية الشيخ الذي بلغ 75 عاما، فتأخذنا كل الطرق إلى دمشق، إلى أنهارها و طقوسها و دائما وجع  القيامة السورية.

تتداخل الأزمنة في شخصية الراوي، الاستعانة بذاكرة الجد،والخال،  ليحكي عن أحداث الفتنة الطائفية عام 1860، وحرق مطار المزة

، حضور اسواق دمشق، التجار، السياسة، إضرابات 1936 و بالتأكيد فإن دمشق الجنة المفقودة، تراجيديا العصر،

“وكأن على التجار أن يتذكروا على الدوام أن السقف الحديدي الذي يحميهم يمكن ثقبه برصاص مسلحٍ ما.. متى شاء” ص(238),

في (الجنة المفقودة من القنوات إلى بساتين كفرسوسة)  أبدع  سيرته و سيرة هذه المدينة بلغة سردية شفيفة يقول:”

. ” لم أكن أعلم أن الشام أم الجمال، وجنة الله على الأرض، ستغدو صحراء للقلوب، بعد أن كانت كعبة للعشاق ولذوي القلوب الكسيرة، لم أكن أعلم أن الفسيفساء الخضراء أمامي سيأتي يوم عليها وتتحول للون الأحمر القاني، وسيقطر الدم تحت نسر الأموي الجاثم أبدا هاهنا.. لم أكن أعلم شيئاً ولم أكن أفقه شيئاً”  ص (247)

خيري الذهبي الإنسان، لم ي يكتب زاوية أومقال إلا و كانت دمشق حاضرة، وبيروت، والقاهرة، والإسكندرية، لكن انشغاله بدمشق و ضياع هويتها وناسها وتاريخها، كان يدفعه دائما إلى الحديث عن أعلام اقترنت أسمائهم بهذه المدينة التاريخية، وهو ما كتبه في “الجديد”،  قليلة هي الأسماء التي التصقت بها دمشق المهندس العظيم أبو لودور الدمشقي صاحب عمود تراجان الشهير، وما عدا مؤرخ دمشق الكبير ابن عساكر وما عدا الشاعر الوأواء الدمشقي، هناك أيضاً وربما أولاً القديس يوحنا الدمشقي هو الاسم الأكثر شهرة عالمية لغير المختصين”.


يقول محدّثي :
لمّا تخرج الكلمة للعلن …فلا سلطة لك عليها …
كل يرميها بسهم عينه ..

 

ماهر حمصي

إبداع بلا رتوش
إشترك في القائمة البريدية