لا تغيب عن ذهني، رغم مرور سنوات، تلك الفتاة الصغيرة التي تقف في وول ستريت في نيويورك، متحدية ثورا هائجا، بقوة شخصيتها فقط. التمثال البرونزي الشهير الذي صنعه الفنان الإيطالي أرتورو دي موديكا. ولكني حين وقفت بجانب الفتاة رأيت الناس، وبدلا من أن يلتقطوا الصور مع الفتاة الشجاعة، يتمسّحون بالثور طالبين بركة فحولته، لأنهم ما زالوا يؤمنون بالمفهوم البدائي للقوة.
يفسر هذا لماذا تفشل الإدارة والسياسة في العصر الحالي. فرجالها لا يتوافرون على صفات رجال القيادة المبدعين. القائد عليه أن يكون مثقفا حيويا مهتما بالعلوم والفنون والتاريخ، صاحب حضور اجتماعي يعرف ما في القمة وما في القاع، يتمتع بخفة ظل وبديهة حاضرة، علاوة على المواقف المبدئية. وأين كثير من رجال هذا الزمن من هكذا صفات؟
وقد قيل للناس إن القيادة أمر معيب، فدعوها لأهلها، فصدّقوا، وباتوا يرتجفون خوفا من فكرة أن يقود واحدهم غيره إلى المستقبل.
وحين تسمع خطابات المتحدثين العرب اليوم، وما فيها من سقطات لغوية وفكرية ولعثمة والتباسات، لا يسعك إلا استحضار روح الشاعر والسياسي والقائد العسكري والموسيقي الساخر فخري البارودي الذي لم تُدرس حياته بعد بصورة كافية. دعكَ من السياسة وانظر إلى آثاره التي عرفها العرب من البحر إلى البحر، فواحد فقط ممن دعمهم وأطلقهم البارودي كان المطرب صباح فخري الذي حمل اسم فخري بيك، بدلاً من كنيته الحقيقة أبوقوس. ويكفي أن تتذكر كلمات النشيد الشهير “بلاد العُرب أوطاني من الشام لبغدان، ومن نجدٍ إلى يمنٍ إلى مصرَ فتطوانِ” الذي كتبه البارودي، ولا ندري إن كان فخري بيك قد كتبه للسخرية أم كان جادّا في تصوراته حول بلاد العُرب.
ذات مرة دعي فخري بيك إلى ندوة في مجمع اللغة العربية، وحين انتهت خرج البارودي رفقة رئيس المجمع العلامة محمد كرد علي. فصادف أحد الأدباء الرديئين ممن كان يصفهم البارودي بـ“غلظاء دمشق”، فاقترب من الأديب السمج وعانقه وقبّله وأخذ يثني عليه ويبارك له قائلا “اليوم بدّعت يا سيدي، لقد صدر عنك الدرر والألماس. تقبر قلبي كم كنت ظريفا!”. فدُهش الأديب ثقيل الظل وقال “ولكن يا فخري بيك، أنا اليوم لم أحاضر ولم أتكلّم ولم أنطق بكلمة واحدة” فابتسم البارودي وقال “تماماً. لأنك لم تتكلّم، أبدعتَ يا مولانا”. وليت السياسيين ومتصدري الشأن العام العربي يبدعون مثل ذلك الإبداع.
لأسباب كهذه تبرز في المؤسسات والشركات العالمية الكبرى اليوم وظيفة مستحدثة يطلقون عليها تعبير “صائد الموظفين”، ويقوم المكلّف بها بالبحث عن أولئك الذين يتمتعون بصفات القيادة لإنجاح المؤسسات، فالعمل لا يبنيه السمع والطاعة وحسب، بل الخَلق والمبادرة.