سوريا الجديدة: أي طريق للاستقرار والازدهار ؟ لـ: ماهر حمصي

ماهر حمصي
مؤسس موقع بلا رتوش

في الثامن عشر من مارس/آذار 2011، انطلقت شرارة الثورة السورية العظيمة، حاملةً أحلام شعب أرهقه الاستبداد، ومطالبةً بالحرية والكرامة. وبعد أربعة عشر عامًا من النضال والتضحيات، وبعد سقوط النظام البائد وفرار بشار في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024،

تقف سوريا الجديدة اليوم على أعتاب مرحلة جديدة. في هذه المناسبة التاريخية، نستعرض مستقبل سوريا المنتظر، ونحاول استقراء الطريق الذي قد يقودها إلى الاستقرار والازدهار.


هل ستتبنى نموذج تركيا بقوتها الأمنية ونفوذها الإقليمي، أم نموذج ماليزيا بتنوعها الاجتماعي واعتدالها الاقتصادي؟

في هذه المقالة التحليلية، نستشرف الخيارات المتاحة، ونرصد التحديات الماثلة أمام هذا الحلم.

سوريا اليوم ليست مجرد دولة تحتاج إعادة بناء، بل أمة تسعى لاستعادة هويتها بعد خمسة عقود من حكم آل أسد القمعي، تلتها حرب مدمرة. الاقتصاد منهار، إذ انخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تزيد عن 60% مقارنة بمستويات ما قبل 2011، وفق تقديرات البنك الدولي .
البنية التحتية تحولت إلى ركام، وأكثر من 12 مليون سوري نزحوا داخليًا أو خارجيًا، بما في ذلك 3.6 مليون في تركيا وحدها (UNHCR, 2024). الانقسامات الطائفية والعرقية بين السنة، العلويين، الأكراد، والدروز تضيف تعقيدًا إضافيًا، فضلاً عن التدخلات الخارجية من تركيا، روسيا، إيران، وإسرائيل.

يكمن التحدي  في تحويل هذا الانتصار إلى مشروع نهضة وطنية شاملة، في ظل واقع يتطلب إرادة صلبة ودعمًا دوليًا.


إعادة إعمار سوريا ليست مجرد حجارة واقتصاد

تركيا، التي شهدت تحولًا ملحوظًا منذ صعود حزب العدالة والتنمية في 2002، تقدم نموذجًا يبدو قريبًا من الواقع السوري. فقد حققت أنقرة نموًا اقتصاديًا سريعًا عبر الاستثمارات الأجنبية والصناعة، مع تعزيز البنية التحتية والسياحة، حيث ارتفع الناتج المحلي من 200 مليار دولار في 2002 إلى 800 مليار دولار بحلول 2020 . سياسيًا، فرضت حكومة مركزية قوية استقرارًا نسبيًا، في عهد رجب طيب أردوغان.

الدعم التركي المباشر للإدارة السورية الجديدة، مع وجود قواتها في الشمال، يجعل هذا النموذج واقعيًا. تركيا قادرة على مساعدة سوريا في فرض الأمن وجذب استثمارات مبكرة، لكن اعتماده قد يثير مخاوف الأقليات، خاصة الأكراد والعلويين، ويعيد إنتاج التوترات الداخلية، نظرًا لضعف الاقتصاد السوري مقارنة بتركيا في بدايات تحولها.

 

في المقابل، تقدم ماليزيا نموذجًا يعتمد على الاعتدال والتنوع. منذ استقلالها في 1957، تحولت من اقتصاد زراعي إلى قوة صناعية عبر سياسات اقتصادية جذبت الاستثمارات الأجنبية والتكنولوجيا، حيث بلغت صادراتها 250 مليار دولار في 2022 . اجتماعيًا، أدارت التنوع العرقي بين المالاي، الصينيين، والهنود بسياسات تفضيلية للمالاي، مع الحفاظ على تعايش سلمي نسبي، وفق تقرير البنك الدولي عن التنمية الاجتماعية . دينيًا، اعتمدت إسلامًا معتدلًا يحترم الأقليات غير المسلمة.

هذا النموذج طموح لسوريا، إذ يوفر إطارًا للمصالحة بين طوائفها المتنوعة، مع تركيز على التنمية بعيدًا عن الصراعات الإقليمية. لكنه يتطلب استقرارًا سياسيًا وبنية مؤسساتية قوية، وهي عناصر مفقودة حاليًا في سوريا التي تعيش فوضى ما بعد الحرب.

 

المصالحة الوطنية هي مفتاح النهضة، كما علمتنا جنوب أفريقيا ورواندا بعد جراحهما العميقة.

إلى جانب النموذجين التركي والماليزي، تقدم تجارب دول أخرى مرت بتحولات مشابهة للحالة السورية دروسًا يمكن الاستفادة منها:

 Citizens of Hamburg, Germany, pick their way through the rubble of their city during the Allies’ week-long Operation Gomorrah air raids in July 1943

A Rwandan refugee girl stares at a mass grave where dozens of bodies have been laid to rest July 20, 1994

  • ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية: بعد دمار شامل في 1945، تحولت ألمانيا الغربية إلى قوة اقتصادية عالمية خلال عقدين بفضل خطة مارشال، التي قدمت 13 مليار دولار (ما يعادل 135 مليار دولار اليوم) من الدعم الأمريكي، مع تركيز على إعادة الإعمار وإحياء الصناعة . هذا النموذج يبرز أهمية الدعم الدولي لسوريا، لكنه يتطلب توافقًا عالميًا قد يصعب تحقيقه في ظل الاستقطاب الحالي.
  • كوريا الجنوبية بعد الحرب الكورية: عقب حرب (1950-1953) خلفت البلاد في حالة خراب، اعتمدت كوريا الجنوبية على التصنيع والتصدير بدعم أمريكي، لتصبح رابع أكبر اقتصاد آسيوي بحلول التسعينيات، مع نمو سنوي وصل إلى 8% لعقود . هذه التجربة تؤكد إمكانية التحول الاقتصادي السريع لسوريا إذا استثمرت في الصناعة وفتحت أسواقها.
  • جنوب أفريقيا بعد الفصل العنصري: بعد انتهاء نظام الفصل العنصري في 1994، قادت اللجنة الحقيقة والمصالحة بإشراف نيلسون مانديلا جهودًا لتجنب الحرب الأهلية، مع تحقيق استقرار نسبي رغم التحديات الاقتصادية المستمرة . هذا النموذج يقدم درسًا لسوريا في ضرورة المصالحة الوطنية لتجاوز الانقسامات الطائفية.
  • رواندا بعد الإبادة الجماعية: عقب إبادة 1994 التي قتلت نحو 800 ألف شخص، نجحت رواندا تحت قيادة بول كاغامي في تحقيق نمو اقتصادي بنسبة 7-8% سنويًا منذ 2000، مع تركيز على التكنولوجيا والمصالحة . هذه التجربة تظهر كيف يمكن لقيادة مركزية قوية أن تحول دولة مدمرة إلى نموذج تنموي، وإن كان ذلك على حساب بعض الحريات.

هذه التجارب تكمل النموذجين التركي (الأمن والاقتصاد) والماليزي (التعايش والتنمية)، وتوفر لسوريا دروسًا في الدعم الخارجي، المصالحة، والتحول الاقتصادي.

تجارب ألمانيا وكوريا الجنوبية تؤكد: الدعم الدولي والتحول الاقتصادي قد يعيدان الحياة إلى سوريا.



نموذج تركيا يبدو الأقرب لسوريا في مرحلتها الانتقالية، بفضل الدعم التركي والحاجة للاستقرار الأمني، بينما يظل نموذج ماليزيا طموحًا على المدى الطويل، مع استلهام دروس من تجارب ألمانيا (الدعم الدولي)، كوريا الجنوبية (النمو الاقتصادي)، جنوب أفريقيا ورواندا (المصالحة). لكن التحديات الماثلة داخليًا وخارجيًا قد تعيق هذا التحول. داخليًا، الانقسامات الطائفية والعرقية تهدد أي تقدم، مع استمرار مخاطر الثورات المضادة من فلول النظام البائد أو فصائل متشددة.
اقتصاديًا، غياب الموارد والعقوبات الدولية المستمرة يعرقلان إعادة الإعمار. إقليميًا ودوليًا، تواجه سوريا معارضة من دول تضررت من تحررها: إيران، التي خسرت حليفًا استراتيجيًا وحلقة وصل لميليشيا حزب الله، قد تسعى لزعزعة الاستقرار عبر ميليشيات موالية؛
روسيا، ، قد تعرقل الدعم الدولي أو تستغل التوترات لاستعادة نفوذها؛
إسرائيل، رغم ترحيبها بسقوط نظام موالٍ لإيران، تخشى صعود قوة إسلامية جديدة، وقد تتدخل عسكريًا لضمان أمنها؛
والعراق، المتأثر بنفوذ إيران، قد يواجه تحديات داخلية تعيق التعاون مع سوريا.

هذه العوامل تجعل الواقع يشير إلى مرحلة “تركية” تستمر لسنوات، تعتمد على قوة مركزية لضبط الأمن وإطلاق إعادة الإعمار، تليها تحول تدريجي نحو نموذج “ماليزي” مدعوم بتجارب عالمية إذا نجحت في بناء حكومة توافقية وجذب استثمارات من الخليج، أوروبا، أو الولايات المتحدة. نجاح هذا المزيج يتطلب قيادة حكيمة قادرة على مواجهة هذه التحديات المتشابكة.

إيران وروسيا وإسرائيل: خصوم قد يعرقلون حلم سوريا الجديدة

كم من الوقت تحتاج سوريا لتحقيق النهضة؟ الإجابة تعتمد على متغيرات رئيسية:

  • الأمن: فرض الاستقرار قد يستغرق 3-5 سنوات إذا نجحت الإدارة في منع الثورات المضادة، وفق تقديرات مركز الدراسات الاستراتيجية في دمشق (SCSS, Syria Stability Report, 2025).
  • إعادة الإعمار: تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن استعادة الناتج المحلي لمستوى ما قبل الحرب قد تستغرق 10-12 عامًا بنمو 5% سنويًا ، لكن الازدهار الحقيقي قد يمتد إلى 20-30 عامًا، كما حدث في كوريا الجنوبية.
  • المصالحة الوطنية: قد تستغرق عقدًا أو أكثر لتضميد جراح الطائفية، حسب تقرير معهد السلام الأمريكي.

في سيناريو متفائل، مع دعم دولي قوي كما في ألمانيا، قد تصل سوريا إلى استقرار نسبي بحلول 2040. لكن واقعيًا، قد تمتد الرحلة إلى 2050 إذا استمرت التحديات.


يقول محدّثي :
لمّا تخرج الكلمة للعلن …فلا سلطة لك عليها …
كل يرميها بسهم عينه ..

 

ماهر حمصي

إبداع بلا رتوش
إشترك في القائمة البريدية