أول ما يلفت انتباه المتصفح لتاريخ سورية الحديث خلال فترة الخمسينات من القرن الماضي, هو الكم الهائل من الصحف والدوريات والمطبوعات التي كانت تصدر بشكل دوري, بعضها يومي أو اسبوعي, والآخر شهري للمجلات المتخصصة, في دولة لم يتعد عدد سكانها الثلاثة مليون نسمة. الصحف اليومية كانت تنفد على آخرها من قبل شعب متعطش للقراءة, ومتابعة الأخبار التي يتوقف أمامها الكثيرون أذكر منهم الذين كان يلفت انباههم خبر يتعلق بذكر سقطات الحكومة, حينها يتحرك الرأي العام رافضا ماحدث, فتسخر الحكومة جهودها للتراجع أمام أهمية الرأي العام الذي يقف بمثابة السد لمنعها من التمادي. كثيرة هي الأمثلة التي يجدها القارئ في صحف سورية التي صدرت في تلك الحقبة الذهبية من تاريخ بلده, وقفت خلالها الصحافة بحزم أمام تجاوز أحد الوزراء لمهامه, أو أحد كبار المسؤولين في الدولة بما فيهم رئيس الجمهورية نفسه, أو أصدرت قانون ما وجده الشعب لا يتلاءم مع مصالحه.
تعديل سلوك الحكومة, ومنعها من الانزلاق بعيدا عن هدفها الوجودي بصيانة حقوق الشعب الذي أوكلت إليها مسؤولية حمايته, لا قيادته, تمثيل مطالبه, لا التضحية بحقه, هو أحد المهام التي تقوم بها الصحافة المستقلة, وهو منبثق من المفهوم الكبير “للحرية الفكرية” التي تعتبر حقا مقدسا لا يمكن المساس به, في دول يتبوأ فيها المواطن صدارة الاهتمام الرسمي, والرئيس فيها موظف لدى الشعب, لا حاكم عليه.
الحرية الفكرية وجدت من أجل صيانة الحقوق, وغيابها يعني تسيب الأمور الذي يؤدي في النهاية إلى حالة من الفلتان يصعب ضبطها, لهذا هي حق مقدس لا يمكن المساس به, غيابها يعني في النهاية الثورة, الاضطرابات التي قد تليها, ثم السقوط في هاوية المعاناة التي لن تستثني أحد من شركها, وهذا عايشناه بمرارة خلال أربعة عشر عاما, تحولنا خلالها إلى أمثولة في الصبر, وأحيانا كان الصبر فيها أكبر من طاقة الإنسان على التحمل.
تعمد الحكومات الديكتاتورية إلى الغاء الحرية الفكرية, كأول خطوة متاحة أمامها لتثبيت أقدامها حيث وجدت, فتحوذ على حرية التصرف كما يحلو لها وتخطط له, وهي دائما تخطط لمصلحتها الشخصية ومصالح المقربين منها الذين يتحولون لجمع من المنتفعين, ما يفتح الباب واسعا أمام التسيب, المحسوبية, الرشوة, وتغوّل الأتاوات التي تستحوذ على الأرباح, ما يؤدي لإرتفاع الأسعار التي تهبط بالمستوى المعيشي للفرد, وتهدر موارد الدولة, التي تتحول تدريجيا إلى جيوب قلة من الذين ارتبطت مصالحهم بشكل عضوي مع الحكومة, فيبدأ وضع العوائل الاقتصادي بالإنحدار حتى يصل مرحلة الفاقة, يشمل هذا الطبقة المتوسطة بكامل فئاتها, من الموظفين بجميع فئاتهم الوظيفية, صغار الصناعيين والتجار, ناهيك عن المزارعين الذين عليهم أن ينتظروا ثلاثة شهور من عمر الدورة الزراعية -كحد أدنى- حتى يتحصلوا على مورد جديد, وتكون الحالة أدهى لدى طبقة الفقراء التي هي بحكم وضعها المتدني, أحوج ما تكون للمساعدة.
ضرورة المطالبة بحرية الفكر، ليس ترفا علينا تأجيله، بل هو حق .
الحديث عن ضرورة المطالبة بحرية الفكر والعمل بجدية لإعادتها إلى السياق الطبيعي لمسيرة الحياة في هذه المرحلة المهمة من تاريخ سورية, ليس ترفا علينا تأجيله, بل هو حق توجب المطالبة به. الصحف هي الأداة الفعالة التي تعمل على نشر الرأي العام وإيصاله إلى مسامع الحكومة, ومن خلال الإشارة بشجاعة وموضوعية إلى التجاوزات التي قد تحدث بعيدا عن العواطف الجياشة التي تنتشر على وسائل التواصل الألكترونية, يتم تقويم سلوك الحكومة والعودة بها إلى جادة الصواب. تنظيف المحاكم من القضاة الفاسدين مهمة تقوم بها الصحافة من خلال العمل على كشف السلوك المريب للكثير منهم. منع المديرين في أي مؤسسة يديرونها من السطو على المال العام فلا يذهب هدرا, وتعود الخدمات التي تؤمنها الحكومة للعمل من أجل المصلحة العامة لشعب سورية الرائع الذي عانى ولا يزال يعاني الكثير, بهذا يمكن ضمان الكثير من حقوق الشعب.
أضيف إلى هذا المهمة التنويرية التي تتولاها الصحافة المستقلة عبر نشر المقالات العلمية المبسطة وتعميم المعرفة, تحسين ذائقة الإنسان الأدبية والفنية, الإرتقاء بمستواه الفكري, والأهم رفع مستوى الوعي لديه لإدراك حقوقه العامة والخاصة, ومنحه الأدوات اللازمة للمطالبة بها.
الحرية الفكرية مطلب هام لنا لا يجوز أن نتنازل عنه, ولا أن نؤجل المطالبة به حتى لا نعود إلى المربع الذي بذلنا الغالي للخروج منه.