إلغاء محاكم الميدان العسكرية : إخفاء تورط أسد في جرائم ضد الإنسانية

منذ أكثر من نصف قرن على إحداث المقبور حافظ أسد محاكم الميدان العسكرية، يعود الابن اليوم لينهي العمل بهذه المحاكم، والتي أصدرت أحكام تصفية ممنهجة بحقّ عشرات آلاف السوريين، إذ أصدر رأس النظام بشار أسد مرسومًا، أمس الأحد من شهر أيلول/ سبتمبر الجاري، ينهي العمل بمرسوم صادر عام 1968 ممّا يسمّى مجلس قيادة الثورة استنادًا إلى انقلاب حزب البعث العسكري، يتضمّن “إحداث محاكم الميدان العسكرية”.

حسب مرسوم رئاسة النظام رقم 32، فإنه سيتم إنهاء العمل بالمرسوم التشريعي رقم 109 الصادر بتاريخ 17 أغسطس/ آب 1968، وتعديلاته المتعلقة بإحداث محاكم الميدان العسكرية، فيما نص المرسوم على إحالة جميع القضايا المحالة إلى محاكم الميدان العسكرية بحالتها الحاضرة إلى القضاء العسكري، لإجراء الملاحقة فيها وفق أحكام قانون العقوبات وأصول المحاكمات العسكرية الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 61 لعام 1950 وتعديلاته، ويعدّ هذا المرسوم نافذًا من تاريخ صدوره.

كان المرسوم 109 عام 1968، والذي لم يعرَض على مجلس الشعب حينها، قد نصَّ على إحداث محكمة أو أكثر تسمّى محكمة الميدان العسكرية تتمتّع بصلاحيات واسعة، إذ تتولى النظر في الجرائم الداخلة في اختصاص المحاكم العسكرية والمرتكبة زمن الحرب أو خلال العمليات الحربية التي يقرر وزير الدفاع إحالتها إليها، كما أن أحكامها لا تقبل أي طريقة من طرق الطعن، وما زاده تضييقًا هو تعديله من قبل الأسد الأب عام 1980 بعد إضافته عبارة “أو عند حدوث اضطرابات داخلية”، ما يعني شمول المدنيين إلى جانب العسكريين ضمن اختصاص المحكمة.

تقع محكمة الميدان العسكرية في منطقة القابون شمال شرق دمشق، إلا أنه بعد انطلاق الانتفاضة السورية 2011 تمّ تشكيل محكمتَين ميدانيتَين إضافيتَين أوائل عام 2012، الأولى في القابون نفسها، والأخرى في معسكر التدريب الجامعي بالديماس قرب نادي الفروسية، شمال غرب دمشق على طريق دمشق-بيروت القديم.

 منظمة العفو الدولية قد سبق أن أشارت في تقرير أصدرته عام 2017، إلى أن هذه المحاكم تعمل “خارج نطاق قواعد وأصول النظام القانوني السوري”، كما نقلت عن قاضٍ سابق فيها قوله: “يسأل القاضي عن اسم المحتجز، وعما إذا كان قد ارتكب الجريمة أم لا. وسوف تتم إدانة المحتجز بصرف النظر عن إجابته”. 

وأضافت: “يخضع المحتجزون قبل إعدامهم لإجراءات قضائية صورية لا تستغرق أكثر من دقيقة واحدة أو اثنتَين”، وتتصف هذه الإجراءات بأنها من الإيجاز والتعسف بحيث يستحيل معهما أن يتم اعتبارها إجراءات قضائية معتادة، معتبرة الإجراء بـ”مهزلة تنتهي بإعدام المحتجزين شنقًا”.

من المعروف أن المحاكمة في محكمة الميدان هي شكلية وسرّية، كما يعتمد القاضي العسكري في إطلاق حكمه على محضر الاعترافات المقدَّم من الأفرع الأمنية، والتي يعرَف عنها انتزاعها للاعترافات بالتعذيب الممنهَج والإكراه.

تتفاوت الأحكام التي تصدرها هذه المحكمة ما بين السجن المؤبد والإعدام، ولا يُسمح للمحتجزين الذين تتم محاكمتهم أمام محكمة الميدان العسكرية بالاتصال بالمحامي، أو معرفة تفاصيل الحكم الصادر ضدهم، فضلًا عن وجود محاكم ميدانية داخل الأفرع تجري فيها عمليات التصفية مباشرة، ونقل الجثث إلى مقابر جماعية.

تعدّ محاكم الميدان العسكرية محاكم استثنائية تسمّى “المحاكم النائمة”، إذ تعمل فقط في وقت الحرب ليحاكم المتهم بسرعة، وهي أصلًا باطلة لأنها لا تأتلف مع الأصول الديمقراطية التي تفصل فصلًا تامًّا بين الحياة المدنية والحياة العسكرية.

كما أنها أصولًا لا تسوغ على الإطلاق محاكمة المدنيين أمام جهة عسكرية، إضافة إلى انتهاكها مبدأ قدسية حق الدفاع الذي نصّت عليه المواثيق الدولية في المادة 11 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، هذا غير مخالفتها لقوانين أصول المحاكمات السورية المتعلقة بطرائق الطعن، كالاعتراض والاستئناف والنقض وإعادة المحاكمة.

يكفي لتشكيلها وجود ضابط لا تقل رتبته عن رائد (رئيس) وضابطَين (أعضاء) لا تقل رتبتهما عن نقيب، بعد صدور قرار التشكيل من قبل قائد الجيش والقوات المسلحة، فيما تعدّ جلسات هذه المحاكم قصيرة جدًّا، تقتصر على قراءة الحكم بما لا يتجاوز الدقيقة، ليعود المعتقلون بعدها إلى سجونهم وأبرزها سجن صيدنايا المركزي سيّئ السمعة ليتبلغوا أحكامهم، وتنفّذ أحكام الإعدام غالبًا في السجن في الجناح الأحمر الدموي.

في تقرير نشرته الشبكة السورية لحقوق الإنسان في 1 سبتمبر/ أيلول الجاري، أشارت فيه إلى أن ما لا يقل عن 223 حالة اعتقال/ احتجاز تعسفي، بينهم 14 طفلًا و17 سيدة، قد تمَّ توثيقها في أغسطس/ آب 2023، مشيرةً إلى اعتقال قوات النظام السوري العشرات من المدنيين المشاركين في احتجاجات أغسطس/ آب المناهضة له وملاحقة آخرين، وضمن أي نشاط سياسي أو حقوقي أو إعلامي أو إغاثي، ثم توجيه غالبيتهم نحو الأفرع الأمنية لانتزاع تهم متعددة تحت الإكراه والترهيب والتعذيب.

أوضح التقرير أن معظم حوادث الاعتقال في سوريا تجري دون مذكرة قضائية لدى مرور الضحية من نقطة تفتيش أو في أثناء عمليات المداهمة، وغالبًا ما تكون قوات الأمن التابعة لأجهزة المخابرات الأربعة الرئيسية هي المسؤولة عن عمليات الاعتقال بعيدًا عن السلطة القضائية، ويتعرض المعتقل للتعذيب منذ اللحظة الأولى لاعتقاله، ويحرَم من التواصل مع عائلته أو محاميه، كما تنكر السلطات قيامها بعمليات الاعتقال التعسفي، ويتحول معظم المعتقلين إلى مختفين قسريًّا.

ووفق التقرير، فإنه بعد تدوين التهم ضمن ضبوط تحال إلى النيابة العامة، ويجري تحويل الغالبية منهم إما إلى محكمة الإرهاب وإما محكمة الميدان العسكرية، حيث لا تتحقق في هذه المحاكم أدنى شروط المحاكم العادلة، وهي أقرب إلى فرع عسكري أمني.

ويبدو أن المرسوم الصادر حديثًا من قبل أسد لا يساوي الحبر الذي كُتب به، لا سيما أن تأثيره سيبقى معدومًا بالنسبة إلى مصير المعتقلين والمختفين قسريًّا، حاله كحال مراسيم العفو الشكلية التي أصدرها خلال السنوات الماضية، لا سيما أن كل جرائم التصفية والقتل التي ارتكبها النظام هي خارج القانون، ولعل مجزرة التضامن وغياب أي محاسبة لمرتكبيها خير مثال على ذلك، فضلًا عن امتلاك النظام لنسخة أخرى من محاكم الميدان العسكرية من حيث الإجرام والبشاعة، وهي محاكم الإرهاب.


يقول محدّثي :
لمّا تخرج الكلمة للعلن …فلا سلطة لك عليها …
كل يرميها بسهم عينه ..

 

ماهر حمصي

إبداع بلا رتوش
إشترك في القائمة البريدية