التعليم والنساء.. قصص نجاح أمام تغييب للحقوق .. لـ: سلوى زكزك

سلوى زكزك
كاتبة سورية

دخلت سميرة إلى غرفة الإدارة لتقدم لأمينة السر مبرراً عن غياب ابنتها عن المعهد اليوم، يظن المرء أن سميرة قدمت خصيصاً من بيتها لتبرير غياب ابنتها، لكن الحقيقة تقول غير ذلك! فسميرة موجودة في المعهد ذاته، وفي الصف ذاته، حيث تدرس ابنتها.

 سميرة وابنتها طالبتان في المعهد الخاص نفسه الذي افتتح أبوابه سعياً لضم أكبر عدد ممكن من الفتيات المتسربات من التعليم، واللافت أن إدارة المعهد شهدت تقدم عدد كبير فاق التوقعات من الفتيات المتسربات للتسجيل، أما المفاجأة فكانت قدوم أمهات وبناتهن للتسجيل أيضاً، لمتابعة التعلم، وهدفهن محدد وواضح، وهو الحصول على الشهادة الثانوية، كان أمراً لافتاً وطموحاً وجالباً للسعادة أن تتشارك أم وابنتها مقاعد الدراسة للحصول على شهادة تخولهما دخول الجامعة! كان هذا حلمهما المشترك والمعلن.

لم يكن وجود الابنة وأمها أمراً سهلاً أبداً، أثار سخرية البعض واستهجان البعض الآخر الذي كرّس مقولة (بعد ما شاب أخدوه على الكتّاب)، كما راهن البعض متأكداً على فشل تلك المحاولة متعللاً بأن العقل تيبس وبات عاجزاً عن خوض أي معلومات جديدة، وفي داخل صفوف المعهد لطالما اشتكت الفتيات اليافعات من طلبات أمهاتهن أو زميلات الدراسة المتقدمات في العمر من طلب إعادة شرح بعض الأفكار، أو طلب التمهل من المعلمين والمعلمات.

يجري تصنيف دخول سميرة معترك التعلم في الخامسة والأربعين قصة نجاح، وسيقدم المعهد تلك القصة شهادة لسلوك استباقي من إدارته، تجلى في قبول تسجيل سميرة بين صفوف الدارسات رغم عمرها، لكن الحقيقة الكامنة هي حرمان سميرة وابنتها من التعليم! حرمت سميرة من التعليم لأنها زُوجت في الرابعة عشرة من عمرها في قرار اعتيادي، وفي إجماع اجتماعي يسمونه عرفاً، وهو عرف مقبول ومرحب به، وحرمت ابنة سميرة من التعليم أيضاً لأن حرباً قذفت بها خارج أسوار مدرستها وهدمت المدرسة، وهجّرت الطلاب والطالبات والمعلمين والمعلمات.

تروي أمينة روايتها: أجبروني على ترك المدرسة بعد إنهائي الصف السادس، اعتبروا ذاك التاريخ موعداً لاكتفائي من العلم، كان مطلوباً مني كتابة اسمي وقراءة أسماء الأطباء على لوحاتهم الإعلانية، وقراءة وجهات وسائط النقل والحساب لا غير، أي كل ما يعتبرونه ضرورياً، والأصح أساسياً ضمن عوالم النساء الضيقة إن لم تكن المغلقة، أخذت أمي وعداً من خطيبي بأن يسمح لي بمتابعة دراستي من المنزل بعد الزواج، حصلت منه على وعد بإنهاء صفوف المرحلة الإعدادية، قالت لي يومها: انتهت مهمتي هنا، قصة البكالوريا وغيرها (أنت وشطارتك)! تركتني أمي لشطارتي وهي التي لم تنفعني شطارتها حين مزق زوجي كتب الصف السابع، ومزق بعدها كل أوراقي التي كنت أدون عليها مقتطفات من الشعر والأدب كنت أختارها لأغذي شغفي بالقراءة وبكتابة القصص.

أذكر تجربة لتعليم النساء الأميات، حيث أجابت معظم المشاركات بأن انخراطهن في هذه الدورة هو فقط لفك الحرف كما قلنّ، كي لا يتهن في المواصلات العامة، وكي لا يضحك عليهن أحفادهن وهن لا يعرفن كتابة أسمائهن

أمينة تدرس الآن الأدب العربي في الجامعة، حصلت على الشهادة الإعدادية ومن بعدها الثانوية، وحققت حلمها بدخول الجامعة، لقد حصلت على حقها بالتعلم، ولما مات زوجها وتركت دائرة العائلة المغلقة، ولجأت إلى المدينة بسبب الحرب، دأبت على تغيير حياتها، مبتدئة بتسجيل بناتها الثلاث بالمدارس وانتهت بنفسها، هي قصة نجاح نعم، لكنها استهلكت أضعافاً مضاعفة من التعب ومن المقاومة العكسية ومن الإصرار لتحصل على حق أساسي من حقوقها، والنجاح هنا ليس مضموناً في الغالب، إذا لم تتوفر حزمة من الظروف المواتية، كالقدرة على الإنفاق على الدراسة، والقدرة على مواجهة المجتمع، والأهم القدرة على صياغة الحلم على شكل قرار غير قابل للتنازل عنه.

أذكر تجربة لتعليم النساء الأميات، حيث أجابت معظم المشاركات بأن انخراطهن في هذه الدورة هو فقط “لفك الخطّ” كما قلنّ، كي لا يتهن في المواصلات العامة، وكي لا يضحك عليهن أحفادهن وهن لا يعرفن كتابة أسمائهن، كان لافتاً مشاركة امرأة في الدورة، بناء على رغبة زوجها، حيث دفعها إليها رغم تمنّعها وخجلها الكبير، ورغم رفضه المطلق لتعليم النساء والأصح البنات، قالها صراحة للمعلمة المتطوعة: زوجتي راسها سميك، دوماً تخطئ في الحساب عند شرائها احتياجات المنزل، إنها تتسبب لي بخسارات كبيرة شبه يومية.

احتارت المعلمة المتطوعة في شكل الرد على الزوج الخائف من خسارة أمواله، تولد عندها عناد خاص دفعها لتركز على تلك السيدة بشكل مضاعف، واللافت أن السيدة لم تكن تعاني من أي نقص في القدرة على التعلم، فأظهرت تميزاً واضحاً وبراعة في التعلّم السريع كتابة وقراءة، أما بخصوص الحساب فالمشكلة ليست بضعفها فيه أبداً، بل كانت تثق بالباعة وتعطيهم ما يطلبون، قالت يومها جملة تكرّس كل الحيف الكبير الذي يقع على البنات والنساء جراء حرمانهن من التعليم: “هيك بدهن أنو ما نفكر بشي”.

يزداد الواقع التعليمي للنساء المتسربات والأميات قتامة، تضيق المساحة اللازمة لعبورهن نحو أمان شخصي ومعرفي، تتعقد وبشدة فرص حصولهن على حقوقهن الأساسية، بسبب ضيق الظروف ربما. لكن السبب الأهم هو فقدان فرص إيجاد مراكز كافية ومناسبة للتعليم، وغياب الاهتمام بهذه المشاريع لأسباب غير مقنعة أبداً، لكنها مكررة وكثيرة، وكأنها حكمٌ مطلقة في وقت باتت عبارة الجدوى تقتصر على المردود المالي والدعاية لطرف بعينه.

حين تتداخل الحقوق بالدعاية، والأساسيات بمصلحة المنتفع، المسيطر أو المالك أو المنفق، تتوه النساء وتتخبّط الفتيات، ويغدو التعليم مجرد مشاريع لحصد النتائج أو لتغذية الصحافة بقصص جديدة تناسب المرحلة.




العربي الجديد

يقول محدّثي :
لمّا تخرج الكلمة للعلن …فلا سلطة لك عليها …
كل يرميها بسهم عينه ..

 

ماهر حمصي

إبداع بلا رتوش
إشترك في القائمة البريدية