يتوسَّلون لأجل الموت…..

يتوسَّلون لأجل الموت...

[dt_divider style=”thick” /]

التقرير للصحفية أروى دامون، صحفية أميركية، ومراسلة بمقر شبكة "سي إن إن" في إسطنبول

By Arwa Damon, Salma Abdelaziz and Mary Rogers, CNN

[dt_divider style=”thick” /]

في أحد أيام الشتاء الباردة والمليئة بالغيوم، كان علمٌ إسلامي كبير وأبيض هو الإشارة إلى أننا دخلنا منطقة شمال سوريا، التي تسيطر عليها المعارضة السورية.

تنتشر على الطريق لافتات: “التدخين حرام شرعاً”، “وانظر حيث يريدك الله أن تنظر”. وتحث هذه اللافتة الثانية على غضّ الأبصار عن النساء، وعدم مشاهدة أفلام هوليوود.

أثناء سيرنا بين تلال منطقة إدلب، الواقعة في غرب حلب، أخبرنا سائقنا عبد الله (ليس اسمه الحقيقي) أنَّ الطائرات قصفت بلدة معرة مصرين للتو، التي تبعد حوالي 15 أو 20 دقيقة بالسيارة”.

وقال عبد الله بنبرةٍ حزينة: “يقولون إنَّ هناك وقفاً لإطلاق النار، قد يكون في حلب. ولكن لا تزال هناك مناطق في البلاد تتعرض للقصف”.

إدلب هي كل ما تبقى تقريباً من حُلم المعارضة السورية بدولةٍ مستقلة، في الوقت الذي تسعى فيه الجماعات والميليشيات المنشقة سياسياً إلى المطالبة بنصيبها في الكعكة التي تقلَّص حجمها أكثر من أي وقت مضى.

[dt_fancy_image image_id=”20586″ onclick=”lightbox” width=”” align=”center”]

أردنا الوصول إلى بلدة معرة مصرين فوراً، لكن جميع الحُراس المرافقين لنا أخبروننا بأن ذلك أمر خطير جداً، فبمجرد تحليق الطائرات فوق المنطقة، لا نعلم الهدف التالي الذي ستقصفه.

كان أقرب مكان يمكننا الوصول إليه من المنطقة التي تعرضت للقصف هو مستشفى، وكان موقف السيارات بها يكتظ بمركباتٍ، ومقاتلين، وأشخاصٍ يبكون موتاهم. بينما كانت هناك سيدةٌ تصرخ وتظهر شدة الألم في صراخها، وضَع أحد الرجال يده أمام الكاميرا وصاح فينا لنُوقِف التصوير.

ليس واضحاً مَن الذي يسيطر على المنطقة، والولاءات هنا مُبهَمة، فمنذ سقوط حلب الشرقية مجدداً في أيدي النظام حُشِدَت كافة الجماعات المعارضة في هذه المنطقة، ليتصارعوا على سلطتها.

لا حدود للقصف

واصلنا السير ناحية أحد المخيمات المؤقتة للاجئين، التي تنتشر بطول المنظر الطبيعي الذي تسوده التلال، ويجمع عبد الله، الذي كان يعمل محامياً قبل أن تمزّق الحرب وطنه، المزيد من المعلومات عن الغارة التي أصابت معرة مصرين أثناء قيادته للسيارة.

أخبره الناشطون بمقتل تسعة أشخاص وإصابة 26 آخرين عندما ضربت الغارة سوقاً، ومخبزاً، وأماكن أخرى. وهناك أطفال ونساء بين القتلى. وأخبروه بأن (جبهة النصرة)، والتي لا تُعَد طرفاً في اتفاقية وقف إطلاق النار، أقامت نقاط تفتيش بالقرب من هنا.

ولكن مرةً أخرى، هذه سوريا، حيث لا حدود للقصف، وإن شمَل مدارس ومستشفيات. وحيث تُرسَم الخطوط الحمراء، ولكن دون جدوى. وحيث تُرتكب الأعمال الوحشية دون مُحاسبة.

وحيث يتوسل الأطفال لأجل الموت.

[dt_fancy_image image_id=”20587″ onclick=”lightbox” width=”” align=”center”]

وقالت سيدة من البلدة، تُدعَى أم بلال: “لقد قصفونا، وفي خلال ثلاث دقائق فقط، وليس ثلاث ساعات. دمّروا منطقتنا كلها”.

ووقف ابنها ذو السبعة أعوام، بلال، بجوارها ناظراً إلينا بحذر، وقالت أم بلال: “إنَّه يسأل لماذا توجد كل هذه الغارات؟ ثم يبدأ في البكاء، وأحيانًا يقول: أتمنى الموت”.

[dt_quote type=”pullquote” layout=”center” font_size=”big” animation=”none” size=”2″]“إنَّه يسأل لماذا توجد كل هذه الغارات؟ ثم يبدأ في البكاء، وأحيانًا يقول: أتمنى الموت”.[/dt_quote]

كيف يمكن لأم أن تستجيب لذلك؟ وأي وعودٍ يمكنها أن تقطعها لطفلها في حين أنها لا تستطيع التأكد حتى من قدرتها على أن تبقيه آمناً؟

مواطنو حلب النازحون

مُعظم الموجودين هنا من حلب. كان الأطفال يتبعوننا، بخدودهم الوردية، وأنوفهم الحمراء من برودة الجو التي جعلت قماش ملابسهم يلتصق بأجسادهم، وكأنه شبه متجمّد، بسبب الرياح التي تضربه كالسوط. وكان هناك رجالٌ مسلحون أيضاً، بدا أنهم يحمون المخيم.

تُعَد أسرة أم بلال إحدى الأسر التي أخلت منازلها، أو، كما يرون، أُجبِروا على إخلائها بالقوة، في حلب الشرقية، التي كانت تحت سيطرة المعارضة في ديسمبر/كانون الأول، بعد شهورٍ من الحياة تحت الحصار والقصف الوحشي.

هزَّت أم بلال رأسها بانفعال وهي تقول: “دُمِّر منزلنا ولم تتبقّ منه ولو ورقة واحدة، وعانينا الأمرّين لنخرج من مدينتنا. لقد أُجبِرنا على الرحيل وتعرضنا للإهانة، هكذا كان الأمر”.

“ما الفائدة من إخباركم بكل ذلك؟”، هكذا سألتنا في ضجر.

 

سُئِلنا هذا السؤال مراتٍ عديدة، سواءً من السوريين الذين يعيشون في وطنهم، أو اللاجئين في الدول الأخرى، أو من يعيشون على الأرصفة والطرقات في أوروبا.

لا أستطيع الجدال فيما إذا كانت هناك فائدة واضحة من ذلك. ولا أستطيع الجدال عن الفارق الذي سيُحدثه أن تُفضي بسريرتها إلى الغرباء.

ولا أستطيع الجدال في أن العالم يحتاج أن يسمعها، في أننا نحتاج إلى سرد ما يحدث في سوريا. لقد سمعها العالَم بالفعل. لقد سردناها بالفعل.

ولكننا لا يمكن أن نبقى صامتين، لا يمكن أن نستسلم. لذا قلت لها ذلك. وبعدها بقيت أرددها ترديداً صامتاً في سريرتي.

حرق الملابس للحصول على الدفء

في أيامهم الأخيرة بحلب، كانت أسرة أم بلال تنتقل انتقالاً هيستيرياً من منطقةٍ لأخرى بسبب تقدم النظام السوري وحلفائه داخل المدينة، والغارات الجوية الروسية التي ساوت جميع المناطق المجاورة بالأرض.

تعرضت المباني التي آوت إليها هي وأسرتها للقصف مرتين، فأصيب زوجها، وانتُشِل أطفالهما الأربعة من تحت الأنقاض يكسوهم التراب ولكن، بفضل الله، لم يلحق بهم ضررٌ جسدي.

قضوا آخر أربعة أيام لهم هناك في الشوارع، يعانون من البرد، والجوع، والخوف.

وتسرد أم بلال معاناتها قائلةً: “اضطررت لحرق ملابس أطفالي لتدفئتهم، أحضرت حقيبتين من ملابسهم وأحرقتها، لأن الجو كان شديد البرودة”.

الآن، وقد صارت بلا مكان تذهب إليه، تندم أم بلال على أنها تركت منزلها.

وتُعبِّر عن معاناتها قائلةً: “يمكنهم مواصلة شن الغارات الجوية فوق رؤوسنا، سأتقبل ذلك. دعونا فقط نعود لمنزلنا. أقسم بالله أنني لا أريد شيئاً غير ذلك، حتى تحت كل هذا القصف، فالأمور على ما يرام طالما أننا في منزلنا”.

وواصلت قائلةً: “تبدين منزعجة بسبب كل ما أقوله لكِ”.

كنت منزعجةً بالفعل، فمع كل ما غطيناه من حروب، ومآسٍ، وقصص، لسنا، ولا يجب أن نكون، منيعين ضد التأثر بهذه القصص.

ولكنني أيضاً احترم قدرة الأشخاص على الاستيقاظ في الصباح ومواصلة حياتهم بشكلٍ طبيعي.

شيءٌ أسوأ من الحرب

في غرفةٍ باردة، ومكشوفة، وخرسانية، تأوي بعض الأرامل وأسرهن، قابلنا حليمة الخطيب وأطفالها الأربعة، هالة، عمرها ثمانية أعوام، وعلاء وعارف، توأمان عمرهما ستة أعوام، وعلي الصغير، عمره ثلاثة أعوام ونصف.

قُتِل زوج حليمة، الذي كان يعمل مزارعاً، منذ سبعة أشهر عندما كان في طريقه إلى العمل.

[dt_quote type=”pullquote” layout=”center” font_size=”big” animation=”none” size=”2″]استطاع علي الوصول إلى الصورة ووضعها على خده، قبل أن يضعها على الجدار الأبيض الرمادي، بحنان، كما لو كان بإمكانه توليد بعض الدفء بطريقة أخرى في هذه الغرفة الباردة.[/dt_quote]

علي صغير جداً، وربما لن يتذكر والده، ولكن بينما كانت أمّه تعرض لنا صورةً لزوجها، استطاع علي الوصول إلى الصورة ووضعها على خده، قبل أن يضعها على الجدار الأبيض الرمادي، بحنان، كما لو كان بإمكانه توليد بعض الدفء بطريقة أخرى في هذه الغرفة الباردة.

“حتى الآن، لا نعرف ما إذا كان هذا الوضع دائماً”، قالت حليمة ذلك وهي تمسح دموعها بالنقاب، وواصلت قائلةً: “ربما هناك شيءٌ أسوأ من الحرب سيحدث لنا”.

بينما واصلنا طريقنا بالسيارة، وصوت الانفجارات البعيدة يهز التلال القريبة منا، عادت بي الذاكرة إلى يونيو/حزيران 2011، إلى المرة الأولى التي قُمتُ فيها برحلة سريعة عبر الحدود التركية – السورية، للتحدث مع بعضٍ من أوائل السوريين الهاربين من العنف.

[dt_fancy_image image_id=”20605″ onclick=”lightbox” width=”” align=”center”]

تجمعت الأُسَر تحت قطع القماش المشمّع والمربوطة في الأشجار، وكان يظن الأشخاص الذين قابلناهم أنهم سيعودون إلى وطنهم في خلال بضعة أيام، أو بضعة أسابيع على الأكثر.

مضى أكثر من خمسة أعوام، والحرب السورية تشهد سلسلةً لا تتوقف من المآسي والقتل العشوائي، لا يهم إلى أي مدى تكون الصور التي ننشرها عن إراقة الدماء “صادمةً” أو “عدوانيةً”، فهي تُحدث فارقاً طفيفاً. ولكننا يجب أن نواصل سرد القصة، حتى ولو كان يبدو في معظم الأحيان أنه ليس هناك أحدٌ يسمعها.

[dt_quote type=”pullquote”]عن شبكة CNN الأميركية. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.[/dt_quote]

يقول محدّثي :
لمّا تخرج الكلمة للعلن …فلا سلطة لك عليها …
كل يرميها بسهم عينه ..

 

ماهر حمصي

إبداع بلا رتوش
إشترك في القائمة البريدية