الخراب المترحل بين المكتوب والبصري: إبراهيم الجبين وأحمد قليج

شرف الدين ماجدولين
كاتب مغربي

في الأعمال التشكيلية الأخيرة للفنان السوري أحمد قليج المقيم في بيروت، نعثر على التشخيص الحي لهذا الولع الروائي بتمثيل الخراب المترحّل، وتجريد الدياسبورا من هويتها العقدية.

لعل من أبرز ملامح التشكيل السردي والبصري الذي أنتجته المأساة السورية المعاصرة ذلك الذي يتمثل في سمة الخراب المترحّل، الملاحق لنظرة الذاهب إلى الشتات، وهو ما قد يبدأ بصور سقوط الجدران والأسقف، وتحطيم المعابر، وتلويث المياه، والضياء، والهواء، ولا ينتهي بصور انكسار الطير والحيوان والشجر، وتهشيم التواصل وتبديد الماضي.
الخراب الذي لا يبقى في حدود الوطن المتروك، وإنما يهاجر في الذاكرة ويسكن الجوارح في الشتات بحيث يغدو جزءا من هوّية الجسد والروح، وهو ما نجد ترجمته في العديد من روايات المنفيين السوريين الجدد مثل لينا هويان الحسن وعبدالله مكسور وإبراهيم الجبين عبر صيغ أسلوبية موغلة في التسجيل الواقعي وتشذير السرد والكولاج الصحافي، وتوطين الأسماء الحقيقية دونما أقنعة، وتوتير المشاهد وأنساق التخاطب، وتغبيش الصور بظلال الوجود القيامي المتداعي.

تكثيف لواقع مشوّه (لوحة للفنان أحمد قليج)

ذلك ما نجده مثلا في: رواية إبراهيم الجبين “عين الشرق” (منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2016)، التي جمع فيها حكايات شخصية “ناجي” الرسام وضابط المخابرات السابق، ليرصد تحولات دمشق وحلب وحمص ودير الزور وتناسل تراجيديات الهجرات والحروب السرية والعلنية لدولة العسكر والمخابرات، قبل الانفجار الكبير الذي حوّل السوريين بتعبير السارد إلى “يهود جدد”.

الخراب الذي لا يبقى في حدود الوطن المتروك، وإنما يهاجر في الذاكرة ويسكن الجوارح في الشتات بحيث يغدو جزءا من هوّية الجسد والروح

هكذا تتلاحق الصور والمقاطع المؤرخة لجدلية الشتات والعودة المؤقتة، والذهاب والإياب، مع استدعاء لافت لقصص يهود سوريين أثثوا الذاكرة، ولوّنوا بقدرهم الفاجع مصير هويات دينية وعرقية أخرى تساكنت في الوطن، قبل أن تتجاور منافيها بعد الخراب الأعظم الذي رحل مع الراحلين في دواخلهم، بحيث تتخايل الرواية في المحصلة النهائية بوصفها تنويعات مشهدية على مقام الآثار الدارسة، والمقابر الجماعية، وهياكل المدن التي تآكل لحاؤها، وتحوّل فجأة إلى غبار.

في مقطع محوري من الرواية يقول السارد “تواصل الأصوات وصولها إلينا من الأعلى، ونحن في الأسفل في قبونا السري، أنا وهو، هو وأحد ما، لا أذكر، في البيت المهجور، أصوات القذائف، أصوات الحرب، وعويل النساء، وصراخ الأطفال، ورعود الأحجار التي تتهاوى مع انهيارات الأبنية: – أنت يهودي لماذا عدت في هذا الوقت؟ وسط الجهاديين الذين يحلمون يقطع رأسك؟ – عدت لأني يجب أن أعود… ثم عليك أن تنتبه إلى أنه لم يعد هناك فارق كبير بين أن تكون سوريا وأن تكون يهوديا”.

تتداخل السرديات اليهودية والسورية في الرواية لتمثيل الفجوة الذهنية والعاطفية التي باتت بين الذات وماضيها وفضاء تفاعلها، لترسم مسارات اللعنة القدرية التي يتكرر فيها “الخروج” مجردا من علل العقيدة والعرق واللغة، متصلا بقدر المواطنة المعطوبة والمنذورة للخراب المترحّل.

ولعل ما يذكي بلاغة المشاهد السردية في رواية إبراهيم الجبين ذات الرؤية الفجائعية للتاريخ والحاضر، توسّلها بشخصيات الرسامين في نسيج الحكاية، بدءا بناجي الضابط/ الرسام، إلى لؤي كيالي، وانتهاء ببشار العيسى الفنان السوري المقيم في المنفى الفرنسي منذ أزيد من ثلاثة عقود، بحيث تتخايل لنا الرواية من زاوية ما بوصفها “عينا” حقيقية (على الشام) وتأويلا للوحات وجداريات ومنحوتات وتركيبات فنية أتقنت تجميد الخراب وتثبيت مراحله، ضد النسيان واحتيالات اللغة، وسعيا إلى قول المرئي الحقيقي في أكثر تجلياته صلابة، في الكتلة الصاعقة للون والمعدن والحجر. التي شخّصتها الأعمال البصرية للتشكيليين السوريين الموزعين بين المنابذ، من مدريد إلى القاهرة ومن لندن إلى عمان ومن نيويورك إلى بيروت.

وفي الأعمال التشكيلية الأخيرة للفنان السوري أحمد قليج المقيم في بيروت، نعثر على التشخيص الحي لهذا الولع الروائي بتمثيل الخراب المترحّل، وتجريد الدياسبورا من هويتها العقدية؛ تتكاثف الأجساد المضمّدة كالمومياوات، والملامح المشوهة، والحقائب والأغراض، وأشلاء الأثاث واللّعب، وهياكل المنازل والعمارات، وبقايا الأرصفة، والمتاريس..

 على أقمشة وأصباغ داكنة حريفة ومخترقة، يجتاحها الرمادي والبنّي المكفهر، الموحد بين الطين والإسمنت وبقايا الضباب، وهي السمات التي تختصرها على نحو كثيف لوحتان مركزيتان لأحمد قليج، الأولى لوجه يطل من فجوة في جدار مطرّز بوخز الرصاص، وجه لا يشبه إلا جحوظه المرعب، لا يميز الناظر فيه ملامح رجل أو امرأة، قد يكون لهما معا، وتشبه فتحة الجدار انحناءة العين، فيُخيّل للناظر أن الوجه المطل عين كبيرة تراقب، من ملجأ ما، تفاصيل الخراب المترحّل. وعلى صفحة الجدار تتراءى ظلال باهتة لكتل وحركة ترتقي من الأسود إلى البرتقالي المائل للحمرة، كأنها جرادية انمحت، أو بقايا دماء وأخاديد.. جدار يخفي الجسد المتلصص إلى الخارج ويكشف أخاديده المخفية في آن.
واللوحة الثانية لامرأة بضمادة على إحدى عينيها، مسدلة الأخرى، ساندة ظهرها إلى رزم وصناديق تميزها ألوان برتقالية وبنفسجية باردة على خلفية رمادية داكنة مضمومة إلى بعضها على نحو مرتجل، هي ما تبقى بعد اختفاء المأوى.
وتبرز الشخصيتان المرئيتان القابلتان للمس في لوحتي أحمد قليج، وكأنهما خارجتان لتوهما من تفاصيل مشاهد الهروب في رواية عين الشرق، لإبراهيم الجبين، بواقعيتهما التعبيرية، واختراقهما التجريدي، وعنف ما تضمرانه من التباسات رؤيوية، تتصادى وأجواء الكولاج الوثائقي ليوميات الحرب والنزوح في الصور الروائية المتراسلة.

تلك كانت بعض ملامح سردية المأساة السورية المعاصرة كما أنجزها الروائيون والتشكيليون الجدد والمخضرمون في المنفى، وكشفت عنها نماذج تمثيلية من أعمال إبراهيم الجبين وأحمد قليج، في الرواية والتشكيل، تنضاف إلى ملامح أخرى يمكن الوقوف عليها في أعمال فنية وسردية تند عن الحصر لمبدعين في الشتات تتفاوت قيمتها وقدرتها على التقاط تفاصيل الموت والرحيل، بيد أنها تؤسس جميعها لأسلوب فني سيسم الثقافة العربية لسنوات طويلة.


صحيفة العرب اللندنية

يقول محدّثي :
لمّا تخرج الكلمة للعلن …فلا سلطة لك عليها …
كل يرميها بسهم عينه ..

 

ماهر حمصي

إبداع بلا رتوش
إشترك في القائمة البريدية