سوريون على الضفة الأخرى ...
تزاحم صور الموت القادمة من غوطة دمشق وجارتها، أقدم وأعرق عواصم العالم، ملتقى حضارات عمرها آلاف السنين وحاضرة كبرى الملاحم الدينية والعسكرية عبر العصور، لكنّ كل هذا العزّ التاريخي لم يشفع لغوطتها من إبادة ممنهجة هي الأعنف في التاريخ المعاصر على غرار غروزني الشيشان وسربرينتشا البوسنة كما يصف مراقبو الإبادة.
بأفواه ملؤها الدماء يستصرخ أطفال غوطة دمشق ونساؤها موتاً يلاحق أدق تفاصيل عيشهم في متناقضات فرضتها حرب قذرة بين الرغبة في العيش وموت يأتي على مهل عبر مئات الصواريخ خلال الساعة والأخرى، بقتل يشرعنه الصمت مع المعرفة بحجم المأساة، وإدانات عالميّة تزد (الطّين بلّة) كما يقول المثل العاميّ، لأنّ شتّان بين موت الخفية والموت العلنيّ، وعلى الرغم من أنّ في الحالتين موت أو حتى في كل الأحوال، إلا أن الموت على مشاهد ومسامع العالم يضفي عليه شعور الخيبة مع السقوط الأخير. على بُعد كيلومترات قليلة من حرب الإبادة الجماعية بحقّ المدنيين العزّل في مدن وبلدات الغوطة، وفي الوقت الذي بات فيه حتّى الصمت جريمة لم تكتفي نماذج بشرية من أبناء العاصمة بالصمت والخنوع، بل أيّدت قتل السوريين الأطفال منهم والشيوخ وحرّضت على ذلك، بذريعة الحاضنة الإرهابية أتبعها النظام بقذائف “خزعبلية” على العاصمة لتكتمل الصورة التي يروج لها الروس عند القطيع المصفّق لقتل الأبرياء، وللعالم الموقن حقيقة المعادلة، لكنّ التوافق الدولي على مزيدٍ من القتل والدماء لإخضاع الثائرين كانت أقوى من كل الأصوات. في خطابات تحريض وكراهية لا تخلو من عبارات الدعس والفعس والإبادة والحرق والويل لأهالي الغوطة، يطلُّ علينا من مواقع التواصل الاجتماعي من جمعنا معهم زوراً وبهتاناً أرضاً وعرقاً وحتّى ديناً وطائفة في (الوطن) هذا المفهوم الفضفاض الذي قتلنا تحت سقفه ولم نُرحم، ويكأنّنا شعوباً خارج سرب الأوطان السويّة والعيش والكرامة، أو مواطنين من الدرجات الثالثة والرابعة والخامسة مجردين من أبسط الحقوق. تصدرت صور أطفال الغوطة أغلفة الصحف العالميّة والمجلات والمواقع الإلكترونية، وسط تضامن دولي كبير، وإدانة للمحتل الروسي وبشّاره المجرم، في حين لم تقابل الصحف العربيّة أو الإسلاميّة ذلك لو بقليل من التضامن، وكأنّ أهل الغوطة لا ينتمون للعروبة ولا للإسلام. لا يعتبر الصمت السوري وليد اللحظة، على وقع المقتلة الغوطانية ولا الحلبيّة قبلها، بل من الأيام الأولى للمذبحة انقسم السوريون على نهر الموت بين ضحيّة على ضفة ومراقب للمقتلة على ضفة أخرى على يد جلّاد واحد، وبين الضفتين والجلّاد كان الموقف الإنساني يهوى في وادي التخاذل ويغوص في مستنقع الصمت، التي لطالما ترجّى الأبرياء أن تحرك ساكناً من أبناء جلدتهم، من سوريي الضفة الأخرى، بعيداً عن الموقف السياسي أو المؤازرة العسكرية أو الدعم المعنوي، فقط موقف يدين القتل والإبادة ولو بكلمة تضامن. وربما تفرض التوافقات الدّولية يوماً ما، حلّاً بعيداً عن رغبة الضفتين، ويهيمن خياراً سياسياً على قرار السوريين عموماً، لكنّ ما لن ينساه السوريون يوماً أنّهم قتلوا على مرأى سوريين آخرين وبمباركتهم أيضاً دون أي إدانة أو سخط حيال هذه الحرب التدميريّة، وسيبقون سوريين على ضفة ثانية تحاسبهم الإنسانيّة ذات يوم.