في تعقيدات الحالة السورية الراهنة، واستعصاء الحلّ السياسي، وانفتاح سوريا/ الدولة على صراعات إقليمية ودولية، هناك معضلة علاقات سوريا الخارجية، أو لنقل موقعها في الصراعات الإقليمية، وكيفية تنظيم وتأمين منظومة أمن واستقرار جديدة في المنطقة.
أهمية الدولة، مطلق دولة، لا تأتي فقط من عواملها الداخلية، التي تعدّ حجر الأساس في قوة الدولة، وإنما أيضاً من رؤيتها لمكانتها ودورها في محيطها الإقليمي، أو طريقة إدارتها لعلاقاتها الدولية، إذ أنها من خلال تلك العلاقات تقوم بنسج مصالح الداخل والخارج، من سياسة واقتصاد وإعلام وثقافة.
بهذا المعنى، إن العلاقات الدولية قيمة مضافة للدولة، ونفوذ إضافي، يمكن استثماره لمصلحة قوة الدولة بشكل عام، أو يمكن أن يتحوّل إلى النقيض، أي إلى ما هو مضاد لمصلحة الدولة.
قد تكون مساحة اختيار النظام السياسي لعلاقاته الداخلية محدودة في كثير من الأحيان، وذلك في حالات الاستقطاب الإقليمي والدولي، التي تدفع إلى اتخاذ مواقف بعينها، ومن المفيد، لفهم حالتنا السورية وتعقيداتها الحالية والمستقبلية، إعادة النظر في تاريخ العلاقات الإقليمية والدولية لسوريا، منذ مرحلة ما بعد الاستقلال، لمعرفة طبيعة الظروف المحيطة وما تشكله من تحدّيات، وأحياناً أزمات.
إن الدولة السورية و بحكم موقعها الجيوسياسي ، منذ الاستقلال و إلى يومنا هذا، دفعت و تدفع ثمن هذا الموقع ، وكانت على الدوام عرضةً للتجاذبات الإقليمية، وبمراجعة سريعة للتاريخ ، ففي شباط 1955 أثناء الحرب الباردة ، تم تأسيس “حلف بغداد”، تحت ذريعة الوقوف في وجه المدّ الشيوعي في الشرق الأوسط ، وتشكّل الحلف حينها من المملكة المتحدة و العراق و تركيا و إيران و باكستان ، الأمر الذي شكل تهديداً حقيقياً لأمن الدولة السورية و مصر و السعودية ، و لا سيما وأن الحلف قد نأى بنفسه عن الصراع العربي – الإسرائيلي، و منذ تأسيسه، وثقت سوريا علاقاتها مع الاتحاد السوفياتي، في تعاون متعدد الأوجه، وخصوصاً العسكري، درءاً لأي تهديد عسكري من هذا الحلف، إضافة لمخاطر الصراع مع إسرائيل.
في 22 شباط / فبراير 1958، أعلنت الوحدة بين مصر و سوريا، وتأسّست الجمهورية العربية المتحدة، وبدأت ملامح ذلك الاستقطاب لمواجهة حلف بغداد ، حيث كان التيار القومي لدى الضباط الأحرار و البعثيين يريد التضامن مع حكومة الثورة في مصر، و ضد تهديدات الأحلاف لها.
في فترة السبعينات و الثمانينات، كان التنافس محتدماً بين النظامين السوري و العراقي، وقد دخل النظامان في حالة عداء، لأسباب حزبية، ومنافسات جيوسياسية، وعداوات بين القيادات، بالإضافة إلى نزاعات حول مسائل اقتصادية، وتقاسم مياه الفرات، وخطوط النفط ، حيث كانت تعبر أنابيب النفط العراقية سوريا، وعلى مر السنين، استضاف كل بلد منهما معارضي النظام الآخر.
وبما يخصّ العلاقات مع إيران، فقد كانت العلاقة بين حافظ الأسد وشاه إيران جيدة، حتى أن الأخير قدّم قرضاً لسوريا، بقيمة 150 مليون دولار، بعد حرب تشرين عام 1973، ومع ذلك، لم يتوان حافظ الأسد عن دعم نظام الخميني، وكانت سوريا أول دولة عربية تعترف بالجمهورية الإسلامية الإيرانية، والثالثة عالمياً بعد الاتحاد السوفييتي وباكستان، في خطوة سياسية بارزة لعقد تحالف مع النظام الجديد في إيران، وسرعان ما أرسل حافظ الأسد برقية تهنئة حارة، وبعد أسابيع أرسل وزير إعلامه أحمد اسكندر أحمد بنسخة من القرآن مزخرفة، ثم زار وزير خارجيته عبد الحليم خدام طهران في آب عام 1979، وأعلن بشيء من المبالغة والغلو أن “الثورة الإيرانية هي أعظم حدث في تاريخنا المعاصر”، وافتخر بأن “سوريا قد دعمتها قبل قيامها وفي أثناء اندلاعها وبعد انتصارها”.
وجد حافظ الأسد في طهران شريكاً استراتيجياً جديداً في سعيه ل”تطويق إسرائيل”. لذلك، تبنّى سياسة رفض “الحرب العبثية”، وأعلن معارضته لما اعتبره “عدوانية صدام حسين”، في مخالفة مباشرة من حافظ الأسد لما عُرف وقتها بالإجماع العربي الداعم لحارس البوابة الشرقية للعرب أمام التمدد الإيراني.
منذ قيام الجمهورية الإسلامية في إيران، كانت علاقة النظام السوري بطهران علاقة استراتيجية، تقوم في منطقها على إحداث توازن للنظام السوري مع دول الخليج، وبقيت في عهد حافظ الأسد فيها مستوى عالٍ من البراغماتية، يقوم على ضبط العلاقة ومعايرتها في إطار متوازن إلى حدّ بعيد.
كشفت حالتنا السورية منذ 2011 إلى اليوم، وجود تضارب في رؤية مصالح سوريا الخارجية لدى كلّ من النظام والمعارضة الرسمية
في عام 2003، ومع إسقاط الأمريكان لنظام صدام حسين في العراق، حدث تحول جديد على حدود سوريا الشرقية، في الوقت الذي كان فيه النظام الدولي، قد مرّ عليه أكثر من عقد، من التحوّل من نظام ثنائي القطب إلى نظام أحادي، تقوده واشنطن، أحدثت إيران اختراقاً قوياً لمنطقة المشرق العربي، ونفوذاً متنامياً في العراق، وجد فيه النظام السوري داعماً لبقائه في وجه التحولات الجديدة في المنطقة.
فرض الربيع العربي تحديات جديدة على الأنظمة السياسية في عموم المنطقة، وبدت تأثيراته القوية على خلخلة منظومة الأمن والاستقرار الإقليمية، فخرجت تركيا من سياسية “صفر مشكلات”، وانخرطت في صراعات دول الربيع العربي، معتمدة على الإسلام السياسي بشكل عام، والإخوان المسلمين بشكل خاص، في الوقت الذي زادت فيه إيران من دعمها لقوى فصائلية إسلامية شيعية، بالإضافة إلى “حماس”.
ليس الهدف من سرد موجز للتحولات التي أحاطت بالعلاقات الخارجية لسوريا، هو تحليل تفصيلي، وإنما للوقوف على الدور الأساسي الذي تلعبه العلاقات الخارجية من أهمية، بكل ما تنطوي عليه من مشكلات وتحديات وفرص في الوقت ذاته، أو ما يمكن أن تحمله من كوارث.
كشفت حالتنا السورية منذ 2011 إلى اليوم، وجود تضارب في رؤية مصالح سوريا الخارجية لدى كلّ من النظام والمعارضة الرسمية، فالأول بقي موجوداً بدلالة تحالفه مع إيران وروسيا، والمعارضة الرسمية بقيت موجودة بدلالة العلاقة مع التحالف التركي-القطري.
في قلب هذه المعادلة، تدخل إسرائيل اليوم على الخط، في ظل غياب شبه كامل للتوجّه العربي، تجاه المسألة السورية أو عموم المشرق العربي، لكن، بالنسبة لنا كسوريين، طامحين لحلّ سياسي للصراع السوري، لا بد لنا من امتلاك تصوّر محدد وممكن للعلاقات الخارجية لسوريا، بحيث تحقق مستوى من الاستقلالية عن سياسات المحاور، إذ لا يمكن تصوّر حدوث سلام داخلي وإطلاق عمليات إعادة إعمار وتنمية، من دون هذا المستوى من الاستقلالية.
أكثر من أي وقت مضى، نحن مدعوون للتفكير في علاقة سوريا بالمنظومتين الإقليمية والدولية، ما يعني أننا بحاجة إلى سبل جديدة تحقق اختراقاً جدياً وعميقاً في علاقاتنا السورية-السورية.
وفي محيطنا الجيوسياسي المباشر، فإنه من الضروري التفكير بطي صفحة الماضي في العلاقات مع لبنان، لتكون قائمة على أسس الندية والتكامل والاحترام المتبادل، والأمر ذاته ينطبق على العراق، لنزع البعد الطائفي من العلاقات، بما يخدم بناء علاقات حسن جوار، وتطوير مصالح اجتماعية واقتصادية وثقافية.
قد تبدو هذه الأفكار مجرّد أمنيات في الواقع الراهن، لكن أخذها إلى مجال العمل السياسي، يمكن أن يولّد ديناميات جديدة للفعل السياسي.