لقد عرفت البشرية الكثير من المشاكل المجتمعية و خصوصاً في المجتمعات التعددية و التي فيها نسيج غني و بألوان مختلفة من المعتقدات و القوميات و الاثنيات و الثقافات .
و من أشد الآفات التي واجهت مجتمعنا هي آفة إلغاء الآخر أو اقصاؤه ، و إن التفكير الاقصائي هو كارثة المجتمع التعددي الذي خطره يعتبر أشد وطأة من أي خطر آخر .
على الرغم من دخولنا عصر العولمة و الثورة التكنولوجية و المعلوماتية و التطور السريع في الاعلام و اتساع هذا الكون للآخر و المختلف ، لا زالت ثقافة الاقصاء سائدة في مجتمعاتنا الانسانية و بشكل فج .
تمارس دون أي وازع أخلاقي أو تربوي و لتصل لمرحلة التخوين و إسقاط الآخر ، و للأسف كانت مجتمعاتنا هي حاضنة لهذا التفكير و إن كانت الغالبية تحاول بلا جدوى أن تتجاهل هذه الحقيقة المُرة ، بسبب تراجع الوعي و تدهور الاخلاق و الثقافة .
لا سيما و أن ثقافة الإقصاء هي العمود الفقري للسلطوية و الاستبداد و بكل أشكاله .
إني مؤمن أننا كسوريين نحتاج إلى الكثير من الحوار الواعي و المسؤول ، كما حاجتنا للحوار الديمقراطي الذي يحمل في طياته المراجعة التاريخية و النقد الذاتي للخروج من هذا النفق المظلم الذي قد يطول مكوثنا فيه و بلا سبيل .
كنت أتمنى دخول مجتمعاتنا عصر الحداثة في القرن الواحد و العشرين ، و نحيا ثقافة الاعتراف بالآخر و حرية الأفراد و المواطنة و الاعتراف بالتعددية الثقافية و السياسية ، و منها إلى تأسيس دولة ديمقراطية حديثة و مع فصل كامل للدين عن الدولة ، أي للخروج من حالة السكون و الخمول و مواكبة عصر التقانة و التنمية و التطوير .
عند انطلاق الحياة السياسية في سورية و تشكيل حركات التحرر الوطنية و القومية و اليسارية لطرد الاحتلال ، كانت العقلية الانقلابية و الاقصاء هي السائدة في أدبيات التيارات السياسية و على اختلافها .
كانت الانقلابات العسكرية ما بعد الاستقلال هي التعبير الصريح للتهميش و إلغاء الآخر ، و كان كل من يخالفني الرأي هو عميل أو رجعي أو حتى خائن .
أسوء ما جاءنا به انقلاب البعث عام 1963 هو تأسيس أول سلطة شمولية استبدادية و بلون واحد ، و بدأت بابتلاع القوى الاخرى تدريجياً . حيث تم تفريغ الحياة السياسية من خلال إيجاد ولاءات بديلة من المؤسسات الدينية و العشائرية و القبلية و كذلك طبقة البرجوازية الوطنية في تحالفها مع السلطة الاستبدادية مراعاة لمصالحها .
أحد عشر عاماً من عمر الانتفاضة السورية العظيمة و ما زالت القوى و التيارات السياسية التي تتصدر المشهد تتبنى سياسة التهميش و اقصاء الآخر . إن التحول في خطابها الإعلامي و برنامجها السياسي من الايدلوجي إلى الحديث المبتذل عن الديمقراطية الشكلية هو مؤشر خطير قد يدخلنا نفق جديد مليء بالألغام .
إن إصلاح المؤسسات التعليمية و مناهجها الدراسية أولوية مستقبلية ، لتعليم الاجيال ثقافة قبول الاختلاف في الرأي والفكر والدين والمعتقد ، كما يجب علينا تفعيل دور منظمات المجتمع المدني لنشر مفاهيم الحريات الشخصية و ثقافة تقبل الرأي الآخر واحترامه .
نحن بحاجة للحوار العقلاني المسؤول و النقد الذاتي للتخلص من هذه الأمراض و الآفات التي هيمنت على العقول لعقود طويلة .
و بعد هذا المخاض العسير من التاريخ السوري ، آن لنا الرقي و بما يتناسب و حجم التحديات و استحقاقات الدولة السورية التي نحلم ، لبناء مجتمع متماسك يؤسس دولة ديمقراطية حديثة تقوم على الحريات و الكرامة الإنسانية و المساواة و التعددية .