حلاق تحت التدريب …لـ: مالك داغستاني

الله يوفقك يا أخي.. الدنيا برد لبسوه كنزة صوف تحت الكفن

مالك داغستاني
كاتب سوري

حدثت هذه الحكاية كما هي تماماً عام 2012 في حمص، وتحديداً في كتيبةشهداءالبياضة، التي كان يقودها الشهيد الساروت.كنت نشرتها عام 2013.
الأسماء الواردة فيها حقيقية.

لم يكن “أيمن” ينوي أن يكون حلاقاً في الجيش الحر. لكنه اختار هذا المدخل ليقنع خاله “أبو عمار” كي يسمح له بالالتحاق بالكتيبة: “يا خال إذا عمري مانو قانوني متل ما عم تقول. طيب أنا حلاق، بروح بقص للشباب شعرهم وبساويلكم شاي”.

في الكتيبة كان أيمن يحاول كلما استفرد بأحد المقاتلين أن يسأله عن سلاحه وكيفية استخدامه. مضت شهور لم يكن يجرؤ أن يتناول السلاح بيده علناً خوفاً من الخال الذي ” عقلو يابس” كما كان يردد دائما وهو يلوِّح برأسه. في الليل كان يتسلل للخط الأمامي ويشارك المقاتلين مناوبتهم، متحججاً بتوصيل الشاي لهم ويطيل السهر هناك. كان يحتاج للشعور أنه ليس حلاقاً فقط وكان، كلما سنحت الفرصة، يطلب من أحد المقاتلين ليسمح له بالتدرب على سلاحه. كان يريد الانخراط بكل ما يقوم به المقاتلون ودائماً كان الخال له بالمرصاد.

الله يوفقك يا أخي.. الدنيا برد لبسوه كنزة صوف تحت الكفن


في يوم ذكرى ميلاده الثامنة عشر دخل قائد المجموعة “الخال” الغرفة، حيث أيمن يتحدث لأحد المقاتلين وهو يقص له شعره. كان الخال يحمل بيديه، على غير العادة، رشاشين. وبادره بالقول: “كل عام وانت بخير أيمن“. أيمن الذي لم يكن يتذكر عيد ميلاده استغرب كلمات “الخال“. ولكنه سرعان ما فهم الأمر عندما تقدم منه “الخال” وهو يمد البندقية ليتابع: “اليوم صار حقك يكون عندك سلاحك، وتبطل تتسلبط عالشباب”. وسط صيحات الشاب الذي على الكرسي كان أيمن يرمي مقص الحلاقة من يده غير مصدق أنه أخيرا سينال ما أراد. وما أعاده لصوابه غير صوت الخال الحاسم “كَمِّل حلاقة للزلمي وبعدين بتروح عالحراسة”.

كنت أجلس وحيداً في غرفتي، أو ما يسمى المكتب الإعلامي للكتيبة، عندما دخل أيمن وطلب مني استخدام السكايب ليتحدث إلى أمه. بحزم أجبته أن دخول هذا المكتب ممنوع، وأنه يحتاج لسماح من قائد الكتيبة ليستخدم السكايب. مع شعور بالخيبة بدا على وجهه بوضوح، استدار أيمن وغادر الغرفة دون أي احتجاج. صباحاً وعلى صيحات “الخال“، استيقظ أيمن متأخراً خمس دقائق عن نوبته للحراسة. طلب من الخال أن يتناول فطوره قبل الحراسة فكان الجواب حاسماً ولم يدع لأيمن أي فرصة لتكرار المحاولة “متأخّر عن الحراسة وبدَّك تفطر.. خود كاسة الشاي معك وبس ترجع بتفطر.. يلا لشوف”.

في طريقه إلى نقطة الحراسه٬ ربما لأنه كان يحمل كأس الشاي، أو بسبب أنه كان متضايقاً، لم يستخدم أيمن الخندق لعبور الشارع. رصاصة القناص لم تكن غافله عن أي عابر للطريق. استشهد أيمن. استشهد في صباح عيد ميلاده الثامن عشر.. أثناء تحضيره لرحلته الأخيرة كان الخال يتحدث على الهاتف مع أخته وكانت هناك دمعة متحجرة في عينه وهو يستمع إليها تترجاه: “الله يوفقك يا أخي.. الدنيا برد لبسوه كنزة صوف تحت الكفن”.

كنت أقف وأصور عملية الدفن، جاهداً أحاول أن أهرب من صورته وهو يغادر غرفتي منكسراً دون أن يتحدث إلى أمه في الليلة الفائتة، وألعن الأوامر والالتزام بها. وعلى الطرف الآخر كنت أنظر إلى “الخال“، بدا لي أنه كان متماسكاً لكني دققت في صلابة وجهه ولوهلةٍ كأني سمعته يهمس: “يا الله.. كيف تركته يمضي دون فطور”.

اقتربت من “الخال” معزياً ومحاولاً اختيار كلمات لا تشي بإحساسي: “البقية بحياتك يا أبو عمار“. شد الخال يدي على غير عادته.. نظر إلي وأحسست أنه كان ينظر داخلي: “أم أيمن أمَّنِتْني إذا بدنا نترك المنطقة نطالع أيمن من القبر وناخدو معنا”. ربما شعر وأنا أتابع النظر في عينيه بأني سأسأله عن دمعة لن تضيره لو انهمرت الآن، فتابع: “معليش يا أبو عدنان ما وقتها هلق.. بكرا بعد النصر منجي لهون ومنبكي.. منبكي قد ما بدنا، بس هلق، ما في وقت”.


يقول محدّثي :
لمّا تخرج الكلمة للعلن …فلا سلطة لك عليها …
كل يرميها بسهم عينه ..

 

ماهر حمصي

إبداع بلا رتوش
إشترك في القائمة البريدية