حرية بطحينة
أول ما هبطتُ من الباص القادم من ميرسين إلى عنتاب قلتُ لعبود أن هيا بنا نقصد مطعم الفول الحلبي، فكانت إجابته أن موعدنا هناك مع صديقة سورية مشتركة قادمة من مصر لأداء دورة للناشطين الثوريين، المهم وجدنا مطعم الفول الحلبي، لكن لم يكن هوالمطلوب، إذن هناك مطعم حلبي آخر، ومضينا إليه، مكان رحب قليلاً، أوصلنا الطاولات ببعضها البعض بسبب أن أصدقاء صديقتنا الناشطة جاؤوا إلى المطعم أيضاً، وجلسنا إلى طرف الطاولة نتحدث نحن الثلاثة باستقلالية عن الجميع تقريباً، بينما كان الناشطون السوريون القادمون من لبنان ومصر والإمارات والأردن وما إلى ذلك من المنافي يتضاحكون ويتبادلون الأحاديث الثورية، وبدأت مرافقة الفول بالنزول إلى الطاولة من بصل يابس وأخضر إلى البندورة والمخلل في طقس أزلي من طقوس أكل الفول في سوريا، وبدأت معها أهازيج الناشطين بالنزول إلى الطاولة، فغنوا بشكل جماعي مدروس ربما، أو ربما عفوي، كل الأغاني الثورية الممكنة
وهتفوا كل الهتافات، طالبوا برحيل النظام..يالله ارحل يا بشار، بينما كان الكرسون يسأل وفي يد مساعده الصينية التي تحمل صحون الفول بشقيها الفول بحمض والفول بطحينة : أنت الفول اللي طلبته بحمض والا بطحينة؟! ـ بطحينة معلم.. ويالله ارحل يا بشار..ـ انت كمان بطحينة؟!.. ـ لأ أنا بحمض..وبدنا نشيلك يا بشار بهمتنا الأبية..ـ شو طلبتِ حضرتِكْ؟ ..ـ سوريا بدها حرية..ـ ..بحمض الا بطحينة ؟!.. ـ بحمض .. سوريا بدها حرية..ـ بحمض الا بطحينة معلم؟ ..ـ بطحينة حبيب..وسوريا بدها حرية..زكاتك كاسة زيت معلم.. ـ كاسة زيت لهون عالسريع يا ولد.. ـ سوريا بدها حرية..ـ صحن الحمُّص ألِكْ؟! ـ إي حطُّه بالنص معليش..وسوريا بدها حرية..ـ لمين الزيت معلم؟!.. ـ هاته لقلك..وسوريا بدها حرية.
تابع الكرسون توزيع الصحون حتى وصل إلينا، كنا نتحدث مع بعضنا البعض عندما وضع الصحن أمامنا وقال: مين طالب حرية بطحينة؟!! ثم استدرك خطأه وسط ضحكاتنا الهستيرية، والله فتنا بالحيط يا شباب ..لا تواخذونا، قالها وهو يضع الصحون أمامنا لننقض عليها وسط صمت الناشطين الفجائي وقد امتلأت أفواههم بالفول، بينما على الطاولة جوارنا كان عامل بناء سوري كما يبدو من ملابسه المغبرة والملطخة بالأتربة يأكل صندويشة الفلافل وهو ينظر إلى طاولتنا الناشطة باستغراب واندهاش، لكن الصمت الفجائي مع قدوم الفول جعله يركِّز من جديد في صندويشته وهو يهز برأسه كأنه توصل إلى فكرة ما، وكذلك توصل الناشطون والناشطات إلى فكرة ما، فها هم يخرجون الأوراق ليكتبوا عليها مطالبهم بالحرية للمعتقلين، لن يضيعوا الوقت بالأكل فقط، الحرية للمعتقل الذي لا نعرفه..قالت إحداهن لإحداهن كي تكتب، رددت أخرى..الحرية لميساء وسمر، وكانت ذات الخط الجميل تكتب بالخط العريض على الكرتونات البيضاء، بيد تكتب..وبيد تأكل الفول الغارق بالزيت، ويهرب الزيت من ملعقتها نقطة نقطة ليحط على الكرتونة البيضاء، تخرج الناشطة ذات الخط الجميل كرتونة جديدة وتكتب الحرية ل.. وتتوقف متسائلة بصوت مسموع: شو كان أسمه هاد الرسام يا شباب..الرسام اللي اعتقلوه امبارح.. الرسام المسيحي صبايا..ذكّروني بأسمه. ضحك عبود ونكزني برجله: عم تسأل عن اسم يوسف عبدلكي . وضحكنا ضحكَ سائحين معاً، ألله يفك أسرك يا يوسف، قولتك هالكرتونة رح تجيب نتيجة؟ يوسف عبداللي..هتفت ناشطة..لأ لأ ..عبدلكي ..عبدلكي..صحح ناشط آخر..يوسف عبدلكي..كتبت الناشطة (الحرية ليوسف عبدلكي) والزيت يهرب من الملعقة ويأخذ حق اللجوء في كرتونة يوسف، وانتهى الطعام والكلام، وجاء دور الصور، الناشطات يحملن الكرتونات في مطعم الفول، والناشط المختص بالتصوير من الموبايل يصور، وعامل البناء يبلع اللقمة ويتأمل باستغراب، والزيت وما أدراك ما الزيت قال كلمته بقوة على اللافتات، نقطتان حطتا على حرية يوسف فأصبحت جزية، الجزية ليوسف عبدلكي، ولم ينتبه أحد، وفي المساء كانت اللافتات تزين الحيطان الفيسبوكية، الجزية ليوسف عبدلكي، وعدنا إلى الضحك، لم ينتبهوا ..بل إنهم حتى الآن لم ينتبهوا إلى نقطتي الزيت، وما قيمة الإنتباه أصلاً، وهل كانت هذه الكرتونة لتأكل أكلها حقاً حتى ينتبه الناشطون إلى دقتها؟! كذلك همهمنا..لكن المفاجأة كانت بعد يومين من عودتنا إلى ميرسين، عبود يجلس إلى الشاشة الفيسبوكية ويضحك وهو يناديني: أبو حسين.. والله هالكرتونة تبع مطعم الفول جابت نتيجة..السلطات تفرج عن الرسام يوسف عبدلكي، وانفلجنا فلجةَ مستشرقين معاً، يا لغرابة الحياة السورية هناك، لا شك أن المخابرات أخرجوا يوسف بعد أن دفَّعوه الجزية، فالجزية تجوز عليه باعتباره من أهل الكتاب، أو ليس مسيحياً كما قالوا في مطعم الفول؟!!!!!