متى ستحط طائرة بشار الأسد في مطار بن غوريون؟ الفولكلور الخاص بالممانعة ليس بين موجبات هذا السؤال، هو ليس اتهاماً. الأسد وتل أبيب تجاوز كلّ منهما مرحلة الاتهام على طريقته، فهو لم يفوّت مناسبة للتأكيد على أن إسرائيله هم أولئك الذين يعارضونه في الداخل السوري، وتل أبيب لم تفوت فرصة للتأكيد على تفضيلها بقاءه بشرط ابتعاده عن طهران. شرط الابتعاد عن طهران أتى، كما هو معلوم، بعد أن أدت الأخيرة دورها في منع إسقاط النظام، وصار ممكناً الاستغناء عن خدماتها إثر التدخل العسكري الروسي.
قد يبدو بشار مدفوعاً إلى الخيار الإسرائيلي المكشوف بفعل الثورة السورية ومشارفته على السقوط، إلا أن هذا السياق لا يُسجّل له ولا لضعفه واستضعافه، هو السياق الذي باشره أبوه من قبل. لقد اشتكت تل أبيب أثناء جولات المفاوضات مع موفدي الأب من عدم جديتهم في نقاش القضايا المطروحة، وأنهم يناقشون قضايا ينبغي مناقشتها مع واشنطن، بل لمّحت إلى أن اهتمام الأب في المفاوضات منصب على ضمان سلاسة التوريث بينما لا يتعاطى بجدية مع موضوع المفاوضات الأساسي. قبل ثلاثة أشهر من موته، في لقائه في جنيف مع بيل كلينتون، فجّر حافظ الأسد المفاوضات بشرط كان قد تجاوزه هو الوصول إلى بحيرة طبريا، فأعفى رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إيهود باراك من انسحاب “مؤلم”، وصار واضحاً لواشنطن وتل أبيب أن مضمون الصفقة الأسدية هو “سوريا مقابل الجولان” لا “السلام مقابل الجولان”.
نسبياً، لم يكن يضير تل أبيب الاحتفاظ بالجولان مقابل شعارات الأسد المعادية لها، إنما مع قواعد جديدة للّعب غير تلك التي سادت، هذا مغزى انسحابها من جنوب لبنان الذي رأى فيه الأسد الأب غدراً إسرائيلياً بعد التنازل الذي قدّمه. لقد أرادتها إسرائيل ممانعةً من دون ذلك الخط الساخن بين الجانبين، وكان ذلك يكفيها وهي تشرع في امتصاص نتائج اتفاقيتي أوسلو ووادي عربة، خاصة مع الصعود اللاحق لليمين الإسرائيلي وانقضاء موجة التفاؤل “العابرة” بشرق أوسط جديد. كان شمعون بيريز، صاحب فكرة الشرق الأوسط الجديد، صريحاً في إعلان قدرة آلته العسكرية على مواجهة كافة الجيوش العربية، وربما كانت الثغرة الوحيدة التي تزعج تل أبيب هي حال الفوضى التي تسمح بوجود ميليشيات تخوض حرباً غير نظامية. الاعتبار الأخير يدفعها إلى تدبير الاستقرار في محيطها، وهو من الدوافع المهمة لتفضيلها بقاء بشار على المجهول الذي قد يكون الفوضى، ومن المستحسن الابتعاد عن تأويل دعمها بقاءه بالتخوف من بديل يناصبها عداء حقيقياً، لما يحمله التأويل من مزايدة على حلف الممانعة بعدّته ذاتها.
إن فحوى الصراع البارد مع إسرائيل منذ السبعينات “خارج الشعارات” هو “الجزَرة مقابل أراضٍ فلسطينية وعربية”، أي المنافع الاقتصادية الموعودة مقابل “تنازلات” إسرائيلية في قضايا الحدود، والمنافع المنتظرة آتية من اقتصاديات الخليج، أي من الأنظمة التي طالما وصفها أنصار القضية الفلسطينية بالمتخاذلة والمتآمرة. مع اتفاقية التطبيع الإماراتية ونظيرتها البحرينية، وآخرين في القائمة، تحصل إسرائيل على الجزرة من دون تنازلات، والنقلة تتعدى تحويل ما هو مستور إلى العلن، فما كان مستوراً يتعلق باتصالات أو بعلاقات سياسية دافئة، أما المستجد ففيه انتقال إلى علاقات اقتصادية واسعة، وربما إلى تحالفات سياسية تغير وجه المنطقة.
للوهلة الأولى، لا مطمع لتل أبيب في بلد مثل سوريا، وقادتها يكتفون بتكرار مطلبهم المحدد بإبعاد إيران وميليشياتها. إن بلداً منهكاً بسبب الصراع فيه وعليه لن يكون مطمعاً، ووجود كلب على الحدود يعوي ولا يعضّ وصفةٌ تعايشت معها إسرائيل طويلاً، وصولاً إلى ممارسة ما صار “حقاً” يومياً لها بضرب ما تنتقيه من أهداف في هذا البلد. وللعواء على إسرائيل وظيفة معروفة هي اكتساب شرعية داخلية، ويُفترض بإسرائيل الراغبة في بقاء بشار أن تحتفظ له بها بعد انكشافه داخلياً، فضلاً عن أن توقيع “رئيس” معزول ومنبوذ لا يمنح الاتفاق معه الزخم المأمول.
ما سبق يمكن استكماله بمعطيات وقراءة مختلفتين، على سبيل المثال لا تؤرق تل أبيب شعبية “القائد” العربي الذي يبرم معها اتفاقاً مع علمها بمدى شرعية القادة العرب عموماً، وتوقيع أي واحد “ومنهم بشار” لن تأتي سلطة لاحقة لتنقلب عليه، لقد رأينا ذلك أثناء حكم الرئيس المصري محمد مرسي. الأهم أن سوريا لن تبقى إلى ما لا نهاية تلك الساحة المفتوحة للصراع، ففي لحظة قد لا تكون بعيدة جداً ستأتي التسوية بين القوى المتصارعة عليها، وإسرائيل منهمكة فعلاً في إيصال الصراع إلى الخاتمة المناسبة لها.
نعم، هناك فرصة قد تكون الأثمن لإسرائيل مع بلد يصل نهاية الصراع بخسائر قد لا تقل عن 500 مليار من الدولارات. كثر ينظرون إلى الرقم/الكارثة كفرصة لجني مكاسب إعادة الإعمار، وإسرائيل ليست استثناء إن لم تزاحم على الطليعة. هذا لا يعني بالضرورة رؤية شركات إسرائيلية تنافس على عقود إعادة الإعمار في سوريا، لكن يكفي التفكر فيه من زاوية الخدمات التي تحتاجها الشركات التي ستحصل على العقود. من حسن حظ تل أبيب أن فرصتها أتت على طبق من “أمونيوم” بانفجار مرفأ بيروت، ومن دون تأويل الانفجار على محمل مؤامرتي نستطيع الجزم بحدوثه على غير ما تشتهي قوى لبنانية كانت تمنّي نفسها بمكاسب إعادة الإعمار جراء عدم قدرة المرافئ السورية على استيعاب حركة التوريد، ما يفتح الشهية الإسرائيلية للكسب إن لم تكن جاهزة سلفاً.
لتل أبيب علاقات جيدة مع كافة الزبائن المحتملين لإعادة الإعمار، بدءاً من معسكر حلفاء الأسد مثل موسكو وبكين، وهي بتطبيعها مع دول الخليج أصبحت على علاقة جيدة مع الممولين المنتظرين لإعادة الإعمار، بالإضافة لعلاقاتها الطيبة مع الاتحاد الأوروبي. أي أن الحلقة الوحيدة التي تعوق نشاط مرفأ حيفا كممر لشركات إعادة الإعمار تنحصر في توقيع اتفاق مع بشار الأسد، وهذا الأخير قد يكون متحمساً لإبرامه إذا كان يضمن بقاء أسرته في الحكم، وقد يقبل به على مضض تحت ضغط حلفائه، وأيضاً تحت ضغط الوجود الأمريكي في أكثر المناطق حيوية على الصعيد الاقتصادي.
ليس مهماً أو ضرورياً أن تهبط طائرة بشار الأسد في مطار بن غوريون، ومن المرجح ألا تُستعاد الأجواء الاحتفالية التي رافقت هبوط طائرة السادات هناك عام 1977. اليوم لم تعد ثمة حواجز نفسية ينبغي كسرها كما كان الوضع من قبل، والاتفاق سيكون مضبوطاً أولاً على زمن المكاسب الإسرائيلية، وحتى الشركاء الذين يأتون بها قد لا يُنظر إليهم كشركاء بالمعنى الاستراتيجي.