حكاية بين حطام الطائرة الإسرائيلية الساقطة
أحرق الإسرائيليون طائرتهم التي سقطت في الجليل.. وهم يقومون بين الحين والآخر بنزهات في سماء الشام. وكان الدفاع الجوي في الثمانينات؛ قد أصدر إعلانا تجارياً على التلفزيون الرسمي لتشجيع المواطنين على الانتساب إلى القوات الجوية، جاء فيه: “سماؤنا حلال علينا حرام على غيرنا، بادروا إلى الانتساب إلى الكلية الجوية”. وبادر زملاء لي إلى الانتساب، لكنهم رُفضوا بذريعة إصابتهم بعمى الألوان، وكانت تلك كناية عن انتقاء طائفي، وتنسيب متقدمين غير مصابين بعمى الألوان، من ذوي الدم البارد، لمثل سنوات البراميل. “نسور إسرائيل”، قبل إسقاط الطائرة، قصفوا كثيراً من المواقع السورية في دير الزور، وحسياء، وجمرايا، وعين الصاحب.. وبعد إسقاط الطائرة، قاموا بمئة وثلاثين غارة، لإظهار فحولتهم العسكرية. وسبب الحرق، هو الخوف من المتفجرات كما زعموا، وربما من مرض عمى الألوان، وربما يكون وراء الحرق، سبب آخر هو الذكرى، فبعض الذكريات مؤلمة، وتسبب عمى الألوان.
في أحدأيام الألفية الثانية، إثر إجلاء احتلال جيش سوريا عن شقيقتها لبنان، وقفت سيارات شبح كثيرة أمام مهاجع الطلاب؛ الذين كانوا يؤدون خدمة التدريب الجامعي العسكرية. في حلب، ونزل منها رجل عملاق، يستحق في وصفه استذكار سعيد صالح في “العيال كبرت”؛ عندما قال لإخوته العيال الذين كبروا: أنا لما أقف، مش بأبقى طويل، فوافقوا. تابع: وقفت، فلقيت ركب بني آدم!
الحق أن ظريف الطول بين الطلاب كان يبلغ زنده. وكانوا من جميع الكليات، وبالألاف، وفيهم طلاب نوابغ، وقفوا، ووقف على رؤوسهم الطير، وهم يرون عملاقاً من قوم طالوت، يحمل رشاشه. تبرز عضلات زنديه، ومربي خنازير في صدره، وحوله عناصره، أي جنده. وساد صمت القبور، ولو ألقيت إبرة على الأرض، لسمعت صداها يصلصل مثل جرس الكنيسة للصلاة، أو للجنازة. لم يعد أحد يتنفس. اهتز سرير من أسرة المهاجع، وأصدر صريراً بسبب صدأ النوابض، أو قلة الزيت، أو اضطراب الأرض، وطول العهد، وقلة الزاد، ووحشة الطريق. وتمنى المضطجع على السرير، الذي تجمد في مكانه عند قدوم الشبيحة، لو تنشق الأرض وتبلعه. ودارت في رؤوس الطلاب، الذين عاشوا في عهد الأمن والمخابرات، والاستقرار حيواتهم السعيدة، فكرة أن هذا الرجل يمكن أن يأمر رجاله بفتح النار عليهم.
ربما جاع واشتهى أكل بعض الطلاب، أو ربما صفع طالب من أهل اليابسة أهل الماء، أو ربما شتم طالب من أهل الهمزة أهل القاف، فجاء لينتقم ويبيد الناس، ربما تذكر حادثة مدرسة المدفعية، وربما طمأن بعضهم بعضاً، بأنه بينهم كثيراً من أهل القاف، والأقليات طلاباً، وهذا يمنح لقاحاً فاسداً من الاطمئنان والوقاية، ولكن الغضب يعمي، وتمنّوا في هذه اللحظة التي طالت دهراً، لو أنهم كتبوا وصاياهم.
ثم انبرى أحد الطلاب الأذكياء لينقذ الموقف، فزاده سوءاً، فقد بادر إلى زفّة، فهتف لصناعة مسيرة وطنية، وكان يتأتئ، وكانت تأتأته قديمة، ووراثية من الطفولة، وليست بسبب إجلاء هذا العملاق عن الشقيقة لبنان، واقتحامه الذي يسبب التأتأة، فصاح:
م م م م م مكتو ع ع ع ع المسدس، ب ب ب ب بشار هو المقدس، فانطلقت آلاف الحناجر تهتف وراءه بالهتاف نفسه، وحمله أحدهم على كتفيه، وبدأ الجميع بالرقص، لكن العملاق الشبيح الأصلع، رفع رشاشه، وأطلق بضع طلقات على أشباح غير مرئية في السماء، فأرداها صريعة: بلا أكل “شيت”. ونطق شيت بالعربية، وقد ترجمناها تخفيفاً لوقعها الصاعق، وكأنه قال لهم كونوا حجارة أو حديدا. ووقفت الطيور على الرؤوس، وأنّ سريرأحد الطلاب من الذل، وتمنى الطالب المهتز سريره، لو لم تنجبه أمه، وقال: يا ليتني كنت ترابا، وعطس أحد الطلاب، ولم يشمته أحد، والتشميت العلماني المدني الشامي هو: بقول “صحة”، وليس يرحمك الله، فهي “داعشية”. وتمنى العاطس لو يموت بالعطسة، وتنشق الأرض وتبلعه.
وربما حدّث أحد الطلاب نفسه، أو أنهم جميعاً سألوا أنفسهم، من هذا الرجل؟ هل هو أقوى من بشار؟ ما كل هذا الغرور؟ هل كان يتعاطى الحشيش اللبناني؟ أم يقضي وقته في اغتصاب البنات؟ ماذا لو هتف الشعب يريد إسقاط النظام؟
ثم ظهر جندي من المشرفين على المهجع، ووقف أمام العملاق مثل أقزام سويفت، وتحدثا، فقال له العملاق، إن المهجع لا يصلح لعناصره، وركب مع عناصره سياراتهم، وذهبوا إلى منطقة أخرى. ونجا الجميع من الموت، إلى حين طبعاً، فقد مات أكثرهم لاحقاً تحت التعذيب، ولو ماتوا برصاص الشبيح، لكان أزكى لهم.
أمس ظهر صحفي فلسطيني معروف، كثير الظهور على الميادين، ولا يتأتئ، ولو أنه مثل معظم الصحفيين والقادة الفلسطينيين يجهل أحكام الأفعال الخمسة، فأعاد في التحليل السياسي هتاف صاحب الهتاف، وقال في تحليله، وهو عادة يظهر منتفخ الأوداج متورم العينين: إن سوريا انتقمت أخيراً، وما قبل الطائرة ليس مثل ما بعدها، وإن الجيش السوري جديد، قد اكتسب خبرات هائلة من الحرب على الإرهاب، وعلى داعش، والنصرة. ولم يذكر شيئاً عن البراميل والكيماوي، والحرية. كان هتافه غير المتأتئ هو: مكتوب على المسدس، الدولار هو المقدس. في التلفزيون السوري أيضاً هتفت تيوس مستعارة تقوم بفعل التحليل السياسي مثله، وعادت لهم الروح، وكأن القدس قد حررت. وقالوا: إن إيران وروسيا خلعتا البيجامة!
كان كثيرون يسكتون على سكوت الجيش السوري، على انتهاك إسرائيل لحرمة السماء السورية، كما كنا نسكت عن أذى الشبيحة، صغارهم وكبارهم، شعارن اكان: اليد التي لا تقدر على كسرها بوسها، وادع عليها بالكسر. وكان النظام قد علم إعلامه بالقلم، ما لم يعلم، جملةً صارت تكتب بالإبر على آماق البصر: “سنرد في الوقت والزمان المناسبين”، وظهر شريف شحادة، وقال: لقد جاء الزمان المناسب، والمكان المناسب هو الجليل. وقال: إن الذي رد ليس روسيا ولا إيران، إنما هو الجيش السوري، الذي عدّل أسلحة روسية، وكأنّ السلاح قبعة عسكرية على الرأس، أو فروج تدحرج من فوق قصعة البرغل، فعدّله من جديد، وهو الذي أسقط الطائرة، والبادئ أظلم.
حكاية غرام النظام بالسلطة، أطول من حكاية غرام فريد الأطرش بميرفت أمين، في فلم “نغم في حياتي”، وكان النظام يوصف بأنه من أسعد الأنظمة في العالم، فالشعب يقاد مثل الدجاج إلى الخمّ. ويمكن للنظام مقايضة الخصوم الدوليين ببيع بعض الدجاج، أو ذبحهم، أو بيع بعض المزارع، أوريعها.. إلى أن هتف طفل، غير متأتئ، ذلك الهتاف في درعا، فقلب عليه وعلينا الدنيا.
يقال إن الأسد حالياً، قاعد على الكرسي، لكنه رِجل كرسي، يجلس عليه كثيرون: فقيه إيران، وقيصر روسيا، وكاوبوي أمريكا، فهم الذين يحكمون سوريا. ويقال أيضاً إنه قد صار سنياً في قوته، ويعاني من عمى الألوان، فلا أحد يطيعه من مخابراته، كأنه رئيس فخري، مثل أحمد الخطيب، وأحمد حسن البكر. البساط في سوريا أحمدي لجميع محبي اللعب بالنار، وهواة جمع الثروات السياسة والاستراتيجية.
ربما كانت عظة هذا المقال، أن مرض البشر، منذ آدم، هو السعي إلى الخلد. الحديث الشريف يقول: “لا يزال قلب الكبير شاباً في اثنتين: حب الدنيا، وطول الأمل”، لكن طول الأمل، غير الفردوس الدنيوي، ويبلغ الفردوس الدنيوي مثاله الأعلى في عقيدة الأمريكان، وربيبتها إسرائيل، وأرض الحليب والعسل. يعيش مواطنو إسرائيل عيشة خمسة نجوم، ويضاف إليها نجمة سادسة، هي نجمة الاستعلاء في الأرض، على صاحب الأرض. لكن لديه نقطة ضعف، ظهرت أمس في إسقاط طائرة في منطقة خالية، بعد إغفال مصير طياريها، وهيأن شعب إسرائيل بدأ يلجأ إلى الملاجئ من غير أن يؤذى، فكيف لو أن الجيش الذي عدّل الأسلحة الروسية، رد عليهم بالمثل، فأغار عليهم ببرميل، أوقذفهم ببعض الألعاب النارية!
تحدثنا عن الحرص وطول الأمل، فلا بد من التذكير بأن لقب بشار، هو الأمل!
والأمل قابع على الكرسي، والكرسي لابد أنه يزقزق أحياناً من الصدأ، أو من اضطراب الأرض، فيتمنى صاحبه لو تنشق الأرض وتبلعه بعد إسقاط الطائرة الإسرائيلية، بسلاح روسي معدّل لدى جيش أبي شحاطة.
إذا أسقط النظام بالأسلحة الروسية المعدلة فوق هضبة البرغل، بعد سبع سنوات أخرى، طائرةً ثانية، قد يحتفل الإعلام السوري باستعادة الأندلس!
المصدر : الفيسبوك – الصفحة الشخصية للكاتب أحمد عمر