
أيها الصحفي المحترم، يا من تلوّث يدك بالحبر وتتكسر أظافرك في أرشيفات الجرائد القديمة، اسمح لي أن أقدّم لك دليل النجاة في زمن “التفاهة “. هذا ليس مقالًا، بل هو خطبة وداع لكرامتك المهنية، وتدريب سريع على فنون “البقاء للأتفه”.
لقد ولى زمن “الكلمة الموزونة”، ولّت معه ليالي البحث عن “المصدر الموثوق”. لم يعد أحد يهتم بنشرتك الإخبارية التي تتصبب عرقًا وجهدًا.
لماذا؟
لأنك، أيها المسكين، تبيع خبزًا، بينما الجمهور يلهث وراء رقائق البطاطا الملونة!
أنت تظن أنك تصنع محتوى، ولكنك في الحقيقة تصنع “عُقدًا”. عقدة في جبين من يقرأ، وعقدة في معدة من يحاول استيعاب حقيقة ثقيلة.
بينما “المؤثر” الذي يلوّح بيده ويضحك ببلاهة، يبيع “سيولة”. يبيع لا شيء، ولكنه يبيعه بابتسامة تروّض الخوارزميات، وتُسيل لعاب الجمهور.
أنت، أيها الإعلامي، كأنك شيخ قبيلة يروي حكاية الحرب بملل، بينما “المؤثر” هو مهرّج يرقص على إيقاعها. والجمهور؟
لا يريد أن يعرف من انتصر، بل يريد أن يشارك في الرقصة.
دعنا نتجاهل شهادتك الجامعية التي كلّفتك سنوات وعرقًا.
سيرة “المؤثر” تبدأ وتنتهي في مقطع لا يتجاوز 15 ثانية.
مؤهلاته: قدرة عالية على “التصنّع”، ومهارة استثنائية في تحريك حاجبيه. ثقافته: معرفة عميقة بأحدث الفلاتر الموسيقية. كفاءته: لا شيء، وهذا سر كفاءته!
بينما أنت تتدرب سنوات لتتجنب اللبس، هو يتدرب دقائق ليُتقن “تعبير وجه” لا يُحتمل.
أنت تخشى أن تُتهم بـ”عدم الحيادية”، وهو يخشى أن تُتهم “بطارية هاتفه بالخيانة”!
المفارقة ليست في أن “المؤثر” تفوق عليك، بل في أنك أنت من سمحت له بذلك. لقد كنت تظن أن الحقيقة “باقية وثقيلة”، وهو يعلم أنها سلعة لا أحد يريد حملها.
أنت تتحدث عن “أثر” المحتوى، وهو يتحدث عن “عدد النقرات”. والجمهور، يا صديقي، يختار دائمًا الأسهل هضمًا.
لا تلقِ باللوم على “المؤثر” وحده، فالجمهور هو من يُلقي بنفسه في لعبة خداعه ببلاهةٍ مقززة !
الجمهور الذي يسخر من السطحية صباحًا، ثم يتهافت عليها كالأحمق مساءً. الجمهور الذي يُشيد باللا شيء وكأنه إبداعٌ نادر، تاركًا إياك، أيها الباحث عن الحقيقة، عالقًا في اللامبالاة!
…يبدو أن “الحيادية” صارت قطعة أثرية، و”الدقة” أصبحت عبئًا. الناس لا يريدون “أخبارًا”، بل يريدون “قصصًا سخيفة” تُروى على إيقاع أغنية “سوقية “. لا يريدون “كفاءة”، بل “ابتسامة بلهاء”. إنها جنازة فاخرة للعقل، تُقام على مرأى ومسمع الجميع، والمشيعون يرقصون ويأكلون الكعك في عزاء الحقيقة!
وهكذا، تستمر اللعبة بلا رحمة. أنت تحفر، وهو يلمع. أنت تسهر، وهو يضحك. أنت تبني، وهو يسرق الضوء. وفي النهاية، لا يتبقى من المشهد إلا هذه اللوحة المضحكة المبكية: “العمق في الظل، والسطحية في الصدارة.”
والمفارقة الأكثر تهكمًا، يا سيدي، هي أنك قد تضطر يومًا ما إلى طيّ شهادتك الجامعية، وأخذ دورة مكثفة في “كيفية تقليد المؤثرين” لكي تُسمع صوتك في هذه الضوضاء.
أليس كذلك؟