متى يُنفى ماهر الأسد إلى فرنسا؟
لـ: عمر قدور
أخبار عديدة تتوارد حول ترتيب البيت الداخلي لتنظيم الأسد، فقبل أكثر من شهر ونصف الشهر تم تجريد أيمن جابر “قائد لواءي صقور الصحراء ومغاوير البحر” من عتاده العسكري، مع مؤشرات على وضعه في الإقامة الجبرية ومصادرة قسم من أملاكه التي حصّلها بالشراكة مع أقربائه من عائلة الأسد فساداً وتشبيحاً. بعد أيمن جابر أتى دور حافظ منذر الأسد، الذي ضُبطت كميات ضخمة من الكبتاغون عائدة إليه، وهي تجارة لا يتوقف عندها تنظيم الأسد، ولا يمنع دخولها برعاية ميليشيات لبنانية، وإنما أتى استهداف حافظ منذر الأسد استكمالاً لسابقه أيمن جابر. سيصل الأمر مؤخراً إلى القيام بحملة “أمنية ضخمة” في اللاذقية، من أجل القبض على زعماء الشبيحة المعروفين بمن فيهم أولئك التي تجمعهم قرابة بالعائلة الحاكمة، أو الذين يعتبرون أنفسهم شركاء في بقاء الأسد في السلطة من خلال ميليشياتهم.
ما حدث حتى الآن، وما سيحدث لاحقاً على الصعيد نفسه، يُعدّ نموذجياً. فحرب الأسد تقترب من نهايته، وإن كان بشار يصرّ في كافة مقابلاته مع الإعلام على أنها لم تنتهِ ولن تنتهي قريباً. المهم أن موسكو تروّج لتدخلها الفعّال، وتصرّ على أن الحرب قريبة من النهاية وأنها حققت أهدافها الأساسية. وإذا استرجعنا شكوى بشار من عدم قدرته على استعادة السيطرة على مناطق شاسعة من البلاد، رغم وجود عشرات الميليشيات الشيعية الحليفة، فإننا منذ بدء التدخل الروسي إثر تلك الشكوى سنرى انقلاباً في المسار يؤدي إلى استعادة السيطرة على نسبة ضخمة من المناطق الحيوية. ما كان ينقص الأسد وميليشياته الحليفة أمران؛ التغطية الجوية الساحقة والقدرة على عقد صفقات مع قوى داعمة للفصائل التي تقاتل الأسد. التدخل الروسي سدّ النقص في الثغرتين، واسترجع بعض المناطق عبر صفقات وبعضها الآخر بسياسة الأرض المحروقة التي سبق له تنفيذها في الشيشان.
ضمن آلية الضبط الحالية بإشراف روسي، ووفق تقاسم مناطق النفوذ مع تركيا والولايات المتحدة، لم يعد من دور حيوي لتلك الميليشيات التي تكاثرت منذ عام 2011، وقسم كبير منها حظي بإشراف إيراني، بينما نال بعضها رعاية روسية في بدء التدخل بسبب الحاجة إليها آنذاك. على أية حال، هذه الميليشيات كانت ستصبح فيما بعد عبئاً على عائلة الأسد نفسها، وكانت ستبادر تدريجياً إلى تحجيمها ومن ثم التخلص منها، إلا أن وضع العائلة الحالي لا يسمح بإجراءات من هذا القبيل، وهذا يبرر الظن الشائع لدى الجميع بأن موسكو هي التي تقف وراء الإجراءات الأخيرة، وأن هذا تحديداً ما يرغم المستهدَفين بها على الرضوخ. على سبيل المثال، كان هناك احتكاك قديم بين ميليشيا أيمن جابر وموكب لبشار الأسد، ولم يتطور الأمر حينها بوساطة من ماهر الأسد، ما اعتُبر نصراً لأيمن جابر.
تكسب موسكو شعبية في أوساط المؤيدين من رواج الظن بأنها وراء إجراءات ضبط الشبيحة، فهؤلاء جميعاً “فضلاً عن مساهمتهم في حرب الأسد على الثورة” يقومون بترويع المجتمعات المحلية في مناطق سيطرة النظام، ويمارسون مختلف أنواع البلطجة والسطو والاستيلاء على الأملاك الخاصة تحت الترهيب. وبالعودة وراءً إلى حوالي ثلاثة عقود كانت أجهزة الأسد قد اشتغلت على رفع أسهم الوريث باسل من خلال ما قيل عن إشرافه على حملة على الشبيحة، وأيامها كانت ظاهرة التشبيح متركزة أساساً في الساحل السوري، وإن كان ظهورها الواضح جداً قد أعقب انتصار الأسد الأب في المواجهة مع الإخوان، وأبطال التشبيح القديم “والجدد والمخضرمون” معروفون بالممارسات الشائنة ذاتها حيث تتراكب روح السلطة المطلقة والعصابة والإجرام بأحط أشكاله معاً، مع التنويه بأن الأبطال القدامى لم يكن لهم مجهود فعلي في مواجهة الأب مع الإخوان بخلاف الجدد.
كانت الأخبار أيضاً قد أشارت مؤخراً إلى سحب عدد مؤثر من الحواجز في مدينة دمشق، ومن المعلوم أن المهمة المخابراتية لها مجرد واجهة، بينما تتلخص مهمتها الأساسية في إزعاج السكان وتذكيرهم بالقبضة الأمنية، وفي ممارسة عمليات الابتزاز والسطو على المدنيين أو على السيارات التي تنقل البضائع. السطو وابتزاز السكان لسبب أو لآخر، أو بدون سبب، لا يعبّران عن انفلات قبضة الأسد على ميليشياته العسكرية والمخابراتية؛ هو في صميم التعاقد بين الطرفين، فالأسد ليس مستعداً لدفع أجور كافية للوحوش البشرية التي يستخدمها، وهو يعلم أنها لن تكتفي باستباحة المناطق الثائرة.
المخطط النموذجي لبشار كان أن يتتبع خطى أبيه، وبعد تحقيق الانتصار الحاسم النهائي أن يبدأ رحلة التخلص من قادة ميليشياته الذين يظنون أنفسهم شركاء في النصر، وتالياً شركاء في السلطة. لقد فعلها الأب من قبل، إذ بعد استتباب الأمر نهائياً بادر إلى التخلص من قادة عسكريين كبار، وحتى إلى حل الفرق العسكرية التي كانت بمثابة إقطاعات لهم، مثل علي حيدر وشفيق فياض، وبسبب تعطش أخيه رفعت إلى السلطة كان حل سرايا الدفاع التابعة له أول الخطوات. لكن لا يبدو بشار مستعجلاً الانتصار، ويفضّل عليه الاستمرار في حرب تطول، غايتها الانتقام من السوريين وسحقهم إلى أقصى ما يستطيع، وفي الوقت نفسه التملص أمام مؤيديه من استحقاقات عودة الحياة الطبيعية وما يُسمى النصر. التفكير على هذا النحو يستبعد التخلص بشكل دراماتيكي من الأدوات التي يستخدمها، وفي مقدمها الشبيحة الذين يبطشون بالسوريين الأعداء ويروّعون الموالين.
بعبارة أخرى، يُرجح أن يكون الروس هم من يقرأ من كتاب حافظ الأسد، ولا يُستبعد إطلاقاً أن يكون ذلك ضمن تفاهم وتنسيق مع قوى خارجية أخرى موافقة على إعادة تدوير بشار. الوعد الروسي بهذا المعنى هو تأهيل العصابة الحاكمة لتصبح نظاماً، أو بالأحرى لتنتظم اقتداء بالمافيا الروسية الحاكمة. ومن الملاحظ وجود اتفاق على رمي قذارة ميليشيات الشبيحة على المقلب الإيراني، والنظر إلى التخلص منها ضمن مشروع تحجيم النفوذ الإيراني، لحساب الترويج للنفوذ الروسي بوصفه داعماً لوجود الدولة ومؤسساتها. هذا أيضاً يخدم الفكرة الدولية والإقليمية التي يرى أصحابها المشكلة في الوجود الإيراني أساساً الذي تنبغي مواجهته، في حين يمكن بعد ذلك تطويع العصابة الحاكمة وتحسين أدائها.
ربما يبقى ضمن هذا السيناريو إضافة السمعة التي كان موالو العائلة أول من روجها عن بطش ماهر الأسد قياساً بأخيه، أيضاً في استرجاع لا يخلو من الرمزية لإرث رفعت وحافظ، ومن المضحك أيامها الترويج لحافظ كشخص مقرّب من السوفييت ولرفعت كشخص مقبول غربياً، على شاكلة ما بدأنا نقرأه مؤخراً من اعتبار ماهر أقرب لطهران من بشار الأقرب إلى موسكو! لكن، إذا كان التاريخ يكرر نفسه على نحو مقولة ماركس لا مقولة هيغل، فإن قراءة كتاب حافظ الأسد تعني التضحية لاحقاً بماهر لصالح الإبقاء على بشار، وقد فعلتها موسكو من قبل عندما كانت شريكة في مخطط إخراج رفعت من سوريا بذريعة ذهابه إليها مع وفد رفيع، ومن ثم عودة الوفد بدونه. بالطبع لا ننسى الدور الفرنسي آنذاك، باستضافة الحكومة الفرنسية رفعت بعد قضائه مدة قصيرة في روسيا، ولا يُستبعد أن تكون السياسة الخارجية الحالية لماكرون على استعداد لتكرار التاريخ على شكل مهزلة.