جزاء سنمار …لـ: جهاد الدين رمضان

جهاد الدين رمضان
كاتب سوري

هدر فجأة صوت طائرة حربية في السماء، و ضرب أسماعنا على غفلة كما يفعل صوت الرعد في ليالي الشتاء، كانت أمي منشغلة عن لهونا على سطح دارنا “دار الشيخ عبد السلام” في حي “السكري” بتجهيز “التنور” للخَبز، فاليوم هو يوم عملها الشاق، و يوم لهونا و لعبنا و إطعامنا شهيات المخبوزات، تركنا كلنا – حتى أمي – ما بأيدينا و نظرنا إلى مصدر الصوت في السماء، كان الجو صحواً خالياً من الغيوم في ذلك اليوم التشريني من عام ١٩٧٣ ، وأبصرنا  طائرتين حربيتين هائلتي السرعة، فأثارتا الذهول والاستغراب فينا وهما تخترقان السماء من فوقنا تماماً وتتجهان شرقاً، حيث يتبدىٰ مطار “النيرب” العسكري لنا بوضوح في آخر البساتين الشرقية، حسبناهما تابعتين للجيش العربي السوري و قد عادتا  من مهمة قتالية في حرب السادس من تشرين الأول مع إسرائيل، رفعتْ أمي يديها نحو السماء و دعت الله أن ينصرهما على الأعداء، و بقيت عيوننا شاخصة بالطائرتين لنراهما تحطان في أرض المطار، رأيناهما تقتربان من المدرج، لكنهما لم تحطّا بل حطتا ذخيرتيهما، و قصفتا المطار و ولّتا الأدبار، عرفنا أنها طائرات العدو مع تصاعد الدخان الأسود من بقعة المطار، حينها بكت أمي و لامت نفسها على الدعاء لهما بالنصر، كم خابت آمالنا و قُصفتْ أحلامنا ذلك النهار، و مازالت أمي تلوم نفسها حتى اليوم، و تعتقد أن دعاءها هو سبب قصف المطار!.  

جبهة حرب تشرين كانت بعيدة عن حينا و مدينتنا حلب، كذلك كانت إسرائيل بعيدة كل البعد عنا، لكن حكومتنا البعيدة النظر، كانت قد أشادت في حينا ملجئاً عمومياً للسكان مع تأسيس الحي في منتصف القرن العشرين، لا أعلم في عهد أية حكومة من حكوماتنا المجيدة تم انشاء الملجأ، كل ما أذكره أنه كان موجوداً لنلعب في ساحته مع رفاقي من أولاد الحارة، في تلك الأيام كنا نذهب (أنا و خالد و جمعة و عمر و أمينة و محمد و نوال و..) إلى حديقة “الملجأ” الفتية على بعدها من حارتنا، حارة شجرة “زهر العنقود” واسطة العقد في جيد السكري، نخاطر في الذهاب إلى حديقة الملجأ البعيدة لكي نتزحلق على أسطح أبواب الملجأ الاسمنتية المائلة الناعمة الملساء، و نلعب في تراب الحديقة بالگلال (الدحل أو البلى) و الصيّاح، لكن الزحلقة على سطح الملجأ هي المتعة المنشودة التي تستحق المخاطرة بأي شجار قد يحدث مع أولاد حارة الملجأ، فهذه الساحة ملك لهم، ملكهم دون الآخرين كما يفكرون و يتظاهرون، و الويل للدخلاء. 

   انتهت حرب تشرين “التحريرية” بانتصارنا على العدو الصهيوني كما قال الإعلام الرسمي، و في حيّنا – وحده – انتهت بخسارة ثلاثة مراهقين من الحارة عدا قصف المطار، لم تقصف إسرائيل حيّنا، و لم نستخدم ملجأ السكري العمومي لنتقي غارات العدو، لكن هدايا إسرائيل المميتة بقيت مزروعة في أراضي بلادي بعد الحرب، قنابل و متفجرات و ألغام على شكل ألعاب، حذرتنا منها السلطات، لكن هيهات يعقل الطفل مخاطرها هيهات! 

   الشهداء الثلاثة من بيت “العاشور و العنجريني” كانوا يلعبون في مزبلة “حج نجيب” ، و هي قطعة أرض ترابية مهجورة خلف دكان البقال الشيخ “حج نجيب” ، و قد تعوّد البقال أن يرمي مخلفات الدكان فيها، فننظفها و نلعب فيها مع بقاء تسميتها بالمزبلة، يومها كانت مجموعة من أولاد الحارة الكبار يلعبون في الساحة / المزبلة، عثروا على كتلة معدنية بحجم الكف برّاقة و مطعمة بالنحاس، أخذوها معهم إلى الحارة، و جلسوا على الرصيف قبالة  دكان الفوال “أبو بشير” يحاولون استخراج النحاس من هذه الرمانة المعدنية العجيبة، بحركة ما انفجرت الرمانة / القنبلة، و طارت أجساد الأولاد وتناثرت دماؤهم و قطع لحمهم في وسط الشارع وعلى الأرصفة، هلعتْ الحارة من صوت التفجير، الأرواح طارت مع العصافير، و أجساد الصبية الممزقة النازفة استقرت في ذاكرتي، لونها لون دمٍ و ريحها مسك و رياحين . 

ما أبشع أن يكبر المرء على الأكاذيب و الأوهام، هتفنا في المدارس و الساحات و الشوارع (يعيش الوطن و الموت لإسرائيل)، كبرنا لنجد: مات الوطن و عاشت إسرائيل، دفعنا من جيوبنا و قلوبنا ضرائب عشق الوطن، و دعمنا “المجهود الحربي” في وجه العدو الأول إسرائيل، دفعنا بسخاء و رضا على أمل ألا نضطر للاختباء في الملجأ خوفاً من قصف العدو البغيض، دفعنا ثمن السلاح و بنينا المصانع و معامل “الدفاع” بعرق جبيننا و لقمة صغارنا، فما لقينا إلا الموت مكافأة صبرنا و كدّنا و تفانينا كجزاء “سنمار” المعمار.  

   قتلونا و قصفونا بأسلحة من صنع أيدينا، كأننا بنينا الملاجئ لتحمينا من غارات جيشنا الوطني، ليس من غارات جيش العدو الأجنبي، هوت المدن و البلدات و القرى السورية تحت القصف الوطني بالأسلحة المحلية الصنع، و هوت البلاد في كذبة الدفاع عن الأرض و العِرض، و ها هي إسرائيل تقصف المطارات السورية و المواقع العسكرية حتى اليوم، و لم يطلق عليها جيشنا الوطني رصاصة واحدة أو صاروخ مفرقعات، بينما مازال يقصفنا بالقنابل و البراميل و الصواريخ من العيار الثقيل، ثقل الفيل أو أكثر بقليل.  

يعذبني السؤال و أنا هنا في ملجأي “النمسا” أنظر خراب بلدي : هل خطر في بال بأني “ملجأي” في حي السكري، بأنه يبنيه للأجيال القادمة لتحتمي فيه من غارات طائرات و صواريخ الوطن؟!.  

فيينا ٢٧ تشرين الأول / أكتوبر ٢٠١٩  


*جزاء سنمار مثل يضرب للجزاء المناقض لحسن الصنيع، و قصته معروفة في التاريخ . و النص من مذكراتي و مشاهداتي في الشأن السوري العام، و الصورة المرفقة من أعمال الفنان السوري موفق قات المتوفرة في الانترنت المشاع.  

يقول محدّثي :
لمّا تخرج الكلمة للعلن …فلا سلطة لك عليها …
كل يرميها بسهم عينه ..

 

ماهر حمصي

إبداع بلا رتوش
إشترك في القائمة البريدية