في عام 1995 كَثُر زوّار البلد من قبل مسؤولين أمريكيين، يُواكبهم أحيانا محاضرون ينتمون إلى أصول عربية، يحاضرون في مدرج اتحاد الكتّاب أو في مكتبة الأسد الوطنية، وكانت الدعوات تتمّ بالهاتف إلى الكتّاب في بيوتهم، دون توجيه بطاقات ولا الإعلان عن ذلك في وسائل الإعلام!
وغمزني السفيرُ الأمريكي بعينه ! ..
لـ : فاضل السباعي
أذكر أني حضرت في مكتبة الأسد محاضرتين لسيدتين عربيّتين متأمركتين ، ثانيتُهما أصلُها من مدينتي حلب وكانت محاضِرة لطيفة، وأخرى قبلها أصلها من إحدى الدول العربية ولا أنسى مدى تطاولها على بعض مَن تصدّى لها من الحاضرين بأسئلة أحرجتْها، وجرحِها للمشاعر على نحو بلغ حدّ الوقاحة.
وأذكر أني تلقيت (ربما في الأسبوع الأول من شهر أيلول/ سبتمبر من العام 1995) دعوة هاتفية من المركز الثقافي الأمريكي لسماع محاضرة تدور حول أسباب غياب الديمقراطية في البلاد العربية، وأنّ هذه المحاضرة ستٌقدّم في ثلاثة أمكنة على التوالي: اتحاد الكتّاب، والمركز الثقافي الأمريكي، و… بيت السفير الأمريكي. وأذكر أني سألت المتصلة بي عما إذا كان بيت السفير يضمّ قاعة للمحاضرات؟ فأجابتني بنعم وهي تتّسع لخمسين من الحضور، قلت في نفسي: أدخل بيت السفير، أسمع وأتفرّج على المنزل الذي منه تُنقل المعلومات عن بلدي إلى واشنطن!
عند الساعة الخامسة مساء (ربما) كنت أمام الدارة التي يسكنها السفير في “حيّ الروضة”، وأذكر أني صادفت على الرصيف جارتي “سحر” طالبة الدكتوراه في الأدب العربي، استوقفتني للحديث، فاعتذرت لها بمرح بأني أتهيّأ لسماع محاضرة في بيت السفير… وضحكنا.
في مكان أُدخلتُ إليه، هو بالأحرى “شرفة” ذات إطلالةّ على حديقة الدارة، مزجّجة ومكيّفة، رأيت مَن سبقني في الحضور، منهم المخرج السينمائي نبيل المالح، ورجل الأعمال رياض سيف، والإعلامي ميخائيل عيد. وأحرص على الإشارة إلى أنّ السفير عندما صافحني رأيته يغمزني بعينه اليمنى “غمزة”، لم أدرك معناها تلك اللحظة. وقدّموا لي مثل ما قدّموا للسابقين في القدوم كأسا من عصير الأناناس. وما هي إلا لحظات حتى دُعينا إلى “قاعة المحاضرات” الصغيرة الأنيقة، لنستمع.
افتتح السفير المحاضرة بلغة عربية فصيحة، استحقّ عليها الإطراء من بعض الحاضرين. ووقف المحاضر ليتكلم، وكان عربيّا ينتمي إلى إحدى دول المنطقة، في نحو الخمسين من العمر أو يزيد، لا تملك هيئته ما يملأ العين، ليس لأنه مكفوف البصر، وإلى جانبه سيدة أمريكية، ضئيلة الجسم، تتقن الحديث بالعربية، لاحظنا أنها تقوم بأعمال السكرتاريا له، وعرفنا أيضا أنها زوجته.
أخذ المحاضر يتحدث عن غياب الديمقراطية في البلاد العربية، ويُعدّد أسبابا لها، كانت في رأيه سبعة، ما أزال أذكر منها سببين اثنين: الإسلام وأمريكا!
بعد انتهاء المحاضرة، فتحت السكرتيرة باب المناقشة، ولست أدري ما إذا كنتُ أول من تكلم… قلت ما خلاصته: نعم إنها أمريكا، التي تفضّل أن يتولى حكم كلَّ شعب من شعوبنا، حاكمٌ فرد يكون من لابسي الخاكي، يسهل التفاهم معه من “تحت الطاولة” في الوقت الذي يعلن معاداته لها في الظاهر، وضربتُ مثلا بذاك الذي أصبح زعيما في تلك الدولة العربية الكبيرة، بعد أن قلب نظام الحكم وودّع عاهلها في قصره المطلّ على البحر – بحضور السفير الأمريكي – حيث كانت باخرة تنتظر للرحيل به إلى المنفى.
أذكر أني، لما أشرت إلى ذلك السفير – واسمه “المستر كافري” – ووصفته بأنه “عرّاب الانقلاب”، ارتفعت همهماتٌ صغيرة من اثنين أو ثلاثة من الحاضرين، لم أشكّ في أنها تعبّر عن الاعتراض على وجهة نظري أو بالأقلّ على وصفي لذاك السفير بأنه العراب للانقلاب، ولم يكن هذا يومذاك بخافٍ على أحد، فصور الوداع المنشورة في صحف اليوم التالي بالقاهرة تُبيّن.
وكان عندي كثيرٌ من الكلام أودّ الإفصاح عنه، ما دعاني إلى أن أكتفي بما قلت، مشيرًا إلى أني سوف أكمل حديثي بعد مداخلات الإخوة الحاضرين. ولكنّ السكرتيرة لم تفسح لي مجال القول عندما طلبت استئناف الكلام!
ولحظة انصرافي صافحني السفير – واسمه “كريستيان روس” – بشيء من الاهتمام، وقال إنه يسمع لأول مرة أنّ سفيرا من دولته كان في وداع ذلك العاهل!
وأضيف هنا أنّ الزعيم الانقلابي حجب عن الملك الذي كان، راتبا يعيش به في منفاه، وأكثر من ذلك أنه دسّ له مَن يقضي عليه بموت بطيء بيد ممرّضه الذي جرى على أن يقوم بتدليك جسده المتورّم كلّ يوم.
إنّ ما دفعني إلى سرد هذه السالفة، وقد مضى عليها إحدى وعشرون سنة، هو تلك “الغمزة” بالعين… تاركًا لمن يقرأ مجال التفسير.