انتحاري على الخشبة
شاعر وروائي
وصحافي عربي
[/ult_ihover_item][/ult_ihover]
[dt_quote type=”pullquote” layout=”left” font_size=”big” animation=”none” size=”1″]مسرح دائري. بلا ديكور. شاب يرتدي زيا عسكريا، ويضع عصبة من قماش على رأسه، يتدرب، بتوتر واحتشاد داخليين، على قراءة وصيته قبل تسجيلها، أغنية دينية تسمع خفيفة، وتتحدث عن عرس الشهادة. يتحرك على المسرح، مواجها مقاعد المسرح الفارغة، من غير أن يعني ذلك أنه يتحدث إلى جمهور، بل يبدو مستغرقا تماما في حالته، يحمل ورقة مكتوبا عليها الوصية، ويقرأ من الورقة المكتوبة التي يحملها بيده اليمنى. يتوقف، يخفت صوت الأغنية الدينية. يقول: لا. صوتي يبدو ضعيفا وكلماتي واهنة. إنه لا يشبه أصوات الممثلين والممثلات الذين يقفون على هذه الخشبة، ويؤدون أدوارا لا تشبههم. شخصيات لم يعيشوا حياتها. كم مرة رأيتهم يتدربون على هذه الخشبة؟ ألم أحفظ أدوارهم أحيانا أكثر منهم؟ كان بوسعي تصحيح أغلاطهم، وأنا في الكواليس. لا أحد منهم الآن هنا. المسرح فارغ. إنه لي .[/dt_quote]
المسرح مسرحي الآن. سأتدرب قبل أن يأتي أحد. لقد قرأت النص، وأعجبتني شخصية الاستشهادي. إنها مرسومة بدقة مذهلة. استشهادي حقيقي. لا يهمني ماذا يريد أن يوصل من خلالها. المهم أنها بحد ذاتها قوية جدا. سأحاول أن أسيطر على نبرة صوتي. صوت الشهيد الحي أقوى نبرةً، وأشد عزيمة من ذلك. من يذهب إلى الشهادة بكل جوارحه لا يكون صوته ضعيفاً وكلماته رخوة.. النبرة ووقع الكلمات هما جوهر الوصية. إنها ليست رسالة وداع فقط، ولكنها رسالة إلى أولئك الأشرار أيضا. لذلك ينبغي أن يكون الصوت قوياً، واضحاً، وأن تكون الرسالة شديدة الوقع والتأثير، ينبغي أن يلمسوا تصميمي. سأعيد.. يرفع الورقة أمامه، ويقرأ بصوت أقوى، ولكن بشيء من التوتر، الأغنية الدينية ترتفع وتيرتها مع تصاعد نبرته. يتوقف. لست مرتاحا إلى هذا الصوت. كيف يمكن للإنسان أن يسيطر على صوته، ويشحنه بالذبدبات التي يريد؟ يبدو أن التمثيل أصعب مما ظننت. لماذا لا يطاوعني صوتي؟ لماذا لا يصدر بالقوة نفسها التي ألمسها في داخلي، قبل أن أنطق بالكلمات؟ لماذا تربكني الكمات؟ إنني أسمعها قوية، متماسكة في داخلي، وعندما أنطقها تطلع شيئاً آخر، كأنها صدى خائر. ينبغي أن يكون صوتي قوياً، ولكن من دون توتر وانفعال. قوياً بمضمونه، لا بنبرته الخارجية. أليس هذا ما يقوله المخرج للممثلين والممثلات. الصوت هو بصمة الشخصية. طابعها الذي يميزها عن غيرها، حتى من دون أن تراها. صوت الشهيد الحي ينبغي أن يكون صافياً صفاء النذر.
إنه ذاهب إلى الشهادة، لا إلى الموت. وشتان بين النور والظلمة. يتحرّك على المسرح. يقف في منتصف الخشبة. ثم يقول: قبل أن أمسك هذه الورقة بيدي، كانت الكلمات واضحة في رأسي. هذه الورقة تربكني. سأعيد. يرفع الورقة أمامه، تخفت الإضاءة. ترتفع وتيرة الأغنية مع تصاعد نبرته. يقرّب الورقة إلى عينيه. تتبدل الأغنية الدينية بسمفونية كارل أورف. يندمج بتصاعدها وتوترها. يرفع صوته لمجاراتها، وجعلها مجرد خلفية. صوته يهمين على الخشبة. من دون أن يشعر تشغل مقاعد المسرح الشاغرة بمشاهدين.. يتوقف. تبدو عليه علامات الانزعاج، الموسيقى تخفت.. يقول لنفسه: لا أدري إن كان الذين يسجلون وصاياهم يتحدثون بهذه الطريقة. رأيت بعضهم على شاشة التلفزيون. كانوا يقولون كلاماً لا يبدو أنه كلامهم. ليس هذا ما أريد. ولكن، ألا تبدو هذه الكلمات التي أنطقها الآن ملقنة؟ ألا تبدو مختلفة عني؟
أنا لا أتكلم هكذا. من يعرفني سيفاجأ بكلامي هذا. سيقول إنه من أثر عملي في هذا المسرح. أنا لست ممثلاً. هذا النص لا يشبهني. لا أشعر بأنه أنا. رأيت الممثلين يتدرّبون على أدوارهم ولكني، هنا، لست ممثلا. أمي بالذات ستظن أن هناك من لقنني هذا الكلام، وأنني أقرأ من نص مكتوب سلفاً. علي أن أجد طريقةً أكثر بساطة لتسجيل الوصية. طريقة تشبهني. إنه دوري الذي لا يستطيع أحد آخر أن يلعبه غيري. سأقول إنني لست يائسا. وإنما غاضبٌ، ولدي كل الأسباب التي تجعلني كذلك.
سأقول شيئا من هذا القبيل.. يرمي الورقة على الخشبة. يشدّ سترته إلى الأسفل، كما لو أنه صار مستعداً لتسجيل الوصية، وعندما يبدو عليه أنه التقط النبرة المناسبة، يُسمع صوت انفجار كبير. تعتم الخشبة.