لم ينجُ أيٌّ من السوريين الذين عادوا إلى بلادهم تقريباً من أذى النظام، فالبلاد تشهد فصلاً مأساوياً جديداً، أبطاله اللاجئون السوريون الذين عادوا إلى بلادهم بعدما صدَّقوا دعوة الأسد.
فقد اعتُقِلَ مئات اللاجئين السوريين بعد عودتهم إلى بلادهم مع هدوء رياح الحرب التي فروا منها، ثم استُجوبوا وأُجبروا على الإبلاغ عن أبناء عائلاتهم المقربين، بل تعرضوا في بعض الحالات للتعذيب، وذلك حسبما يقول مراقبو حقوق الإنسان.
وحتى الذين لم يعتقلوا خضع أغلبهم لشكل من أشكال الأذى من قبل النظام، أقلها أن يجبرهم على الوشاية بأقاربهم، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Washington Post الأمريكية.
وأما الأعداد الأكبر من السوريين الذين صمدوا أمام الصراعات في المناطق التي سيطرت عليها المعارضة المسلحة قبل ذلك واستولت عليها القوات الحكومية في الوقت الحالي، فقد واجه هؤلاء مصيراً مشابهاً؛ نظراً إلى أن نظام الرئيس بشار الأسد يعمق من اعتماده الممتد منذ عهد طويل، على المخبرين والمراقبة.
اللاجئون السوريون الذين عادوا لبلادهم يكتشفون أنهم تلقوا ضمانات جوفاء
وتتطلب العودة إلى الوطن من اللاجئين السوريين الحصول على تصريح من الحكومة وإبداء استعداد لتقديم بيانات كاملة عن أي مشاركة كانت لهم مع المعارضة السياسية. غير أنه في حالات كثيرة يتضح أن الضمانات التي تقدمها الحكومة في إطار عملية «المصالحة»، ليست إلا ضمانات جوفاء، في ظل تعرُّض العائدين لإساءات أو ابتزاز عن طريق هيئات الأمن، أو الاعتقال والتعذيب للحصول على معلومات حول أنشطة اللاجئين بينما كانوا بالخارج، حسبما يقول العائدون وجماعات المراقبة.
نحو 2000 شخص اعتُقلوا بعد العودة إلى سوريا خلال العامين الماضيين
نحو 2000 شخص اعتُقلوا بعد العودة إلى سوريا خلال العامين الماضيين، حسبما تقول الشبكة السورية لحقوق الإنسان، وفي الوقت ذاته أُلقي القبض على مئات آخرين بالمناطق التي سيطرت عليها المعارضة المسلحة من قبل.
وقال شاب عاد إلى منطقة تسيطر عليها الحكومة خارج دمشق: «إذا كنت أعرف حينها ما أعرفه الآن، لم أكن عدت قط». وأوضح أنه تعرَّض لمضايقات لشهور طويلة، عن طريق أفراد من قوات الأمن الذين جاءوا إلى منزله أكثر من مرة واستوقفوه في نقاط التفتيش ليفحصوا هاتفه».
وأضاف: «لا تزال الشرطة السرية تعتقل الأشخاص، وتعيش المجتمعات بين الشك والخوف. عندما يأتون إلى بيتك لا يمكنك أن تقول: لا. ويجب عليك أن تذهب معهم فحسب».
تحدث الأشخاص العائدون إلى سوريا في هذا التقرير، بشرط عدم الإفصاح عن هوياتهم أو عدم الكشف عن أسماء العائلة، بسبب الخوف من التهديدات الأمنية.
11 مليوناً بين لاجئ ومشرد، عاد منهم 160 ألفاً
تقول الأمم المتحدة إنه منذ اندلاع الحرب في 2011، فرَّ أكثر من خمسة ملايين شخص من سوريا، وشُرِّد ستة ملايين آخرين داخل البلاد، إذ يشكل هؤلاء مجتمعين أكثر من نصف عدد السكان السوريين.
بدأ اللاجئون خلال العامين الماضيين، في معاودة أدراجهم إلى البلاد، في ظل الهزائم الكبرى التي ألحقتها قوات الأسد بالمعارضة المسلحة واستعادتها لأكثر مناطق البلاد. وتقول الأمم المتحدة إن ما لا يقل عن 164 ألف لاجئ عادوا إلى البلاد منذ 2016.
لكن الأمم المتحدة كانت عاجزة -بسبب عدم القدرة على الوصول- عن توثيق ما إذا كانوا قد عادوا إلى مناطق تسيطر عليها الحكومة أم المعارضة.
طالب الأسد بمزيد من عمليات العودة إلى الوطن، وشجع العائدين في خطاب متلفز خلال شهر فبراير/شباط، على «القيام بواجبهم الوطني». وقال إن العفو سيكون مسموحاً به من أجل العائدين «عندما يكونون صادقين».
أغلبية العائدين تعرضوا لشكل من أشكال المضايقات
وتوصلت دراسة استقصائية حديثة حول السوريين الذين عادوا إلى مناطق تسيطر عليها الحكومة، إلى أن 75% تعرضوا لمضايقات عند نقاط التفتيش أو في مكاتب التسجيل الحكومية أو بالشوارع، أو جُندوا في صفوف الجيش -رغم الوعود بإعفائهم- أو اعتُقلوا.
قال نادر عثمان، أحد أمناء الرابطة السورية لكرامة المواطن، التي قالت إنها أجرت مقابلات مع 350 شخصاً من العائدين في جميع أنحاء سوريا: «حسب بياناتنا،ستكون حالة استثنائية إذا لم يحدث لك أي شيء. إحدى أهم النقاط لدينا تشير إلى أن أغلب الأشخاص الذين عادوا اعتقدوا أن النظام سوف يخلي سبيلهم. واعتقدوا أن عدم انضمامهم إلى المعارضة سوف يحميهم».
لم تردَّ الحكومة السورية على طلبات عديدة للتعليق على المعاملة التي يلقاها العائدون والسوريون الآخرون الذين صاروا الآن تحت سيطرة الحكومة.
يقول كثير من اللاجئين خارج سوريا إنهم كانوا قلقين بالفعل من العودة إلى سوريا، مع المخاوف التي تنتابهم من تزايد غياب الأمن الشخصي في ظل تقارير تشير إلى تراجع الحكومة عن ضماناتها. وتقول جماعات الإغاثة إن ثمة قليلاً من الإشارات إلى احتمالية وجود عمليات عودة واسعة النطاق في أي وقت قريب.
وأوضح كبار المسؤولين السوريين خلال محادثات مع ممثلي الأمم المتحدة، أن العائدين لا يُرحب بهم جميعاً على السواء. ويقول مسؤولان أوروبيان يتذكران المحادثات، إن الأفراد المرتبطين بجماعات المعارضة، أو النشاط الإعلامي، أو العمل الإنساني، لن يكون مرحَّباً بهم للغاية.
لكن الضغوط على اللاجئين من أجل العودة تتزايد حول الشرق الأوسط؛ نظراً إلى أن جيران سوريا يشددون القيود عليهم بدرجة ما، لإجبارهم على الرحيل.
رغم أنهم يعرفون كل شيء أصروا على تعذيبه إلى أن دفع الفدية
غادر حسن (30 عاماً)، منزله بمحافظة حمص الواقعة غرب سوريا في عام 2013. وقبل العودة في نهاية العام الماضي، أمّن لنفسه ما اعتقده ضمانات على سلامته بعد دفع رشوة كبيرة لمسؤول أمني كبير.
لكن ضباطاً من إدارة أمن الدولة قابلوه في المطار واصطحبوه من أجل الاستجواب. وتذكَّر ما حدث، قائلاً: «كانوا يعرفون كل شيء: ما الذي كنت أفعله في الخارج، والمقاهي التي جلست فيها، حتى الوقت الذي جلست فيه مع أنصار المعارضة خلال مباريات كرة القدم».
وبعد أسبوع، أُلقي القبض عليه خلال زيارة لأحد مكاتب التسجيل الحكومية واصطُحب إلى قسم شرطة قريب. وأوضح أن الضباط تناوبوا على ضربه واستجوابه داخل غرفة قذرة، واتهموه بنقل ذخيرة إلى مجموعات المعارضة المسلحة داخل سوريا في 2014.
وأضاف: «ظللت أخبرهم بأنهم يعرفون أنني لم أكن في البلاد حينها. وكل ما فعلوه أنهم طلبوا مني المال، وكانوا يخبروني بأنها الطريق الوحيد إلى حريتي».
وقال إن الحراس في مرحلة ما، سحبوا امرأة شابة لم يقابلها من قبلُ و «ضربوها بأنبوب مياه حتى صرخت، وأخبروني بأنهم سيفعلون معي الشيء نفسه إذا لم أتعاون».
وأوضح أنه أُطلق سراحه في يناير/كانون الثاني، بعد أن دفع أقاربه رشوة أخرى بقيمة سبعة آلاف دولار.
ينبغي للسوريين العائدين من الخارج، مثل حسن، أحياناً أن يحصلوا على الموافقة الأمنية من أجل دخول البلاد مرة أخرى فقط، وفي بعض الحالات يوقعون على تعهدات بالولاء ويقدمون بيانات موسعة عن أي أنشطة سياسية، حسبما تشير وثائق تعرض قائمة بالأسئلة التي تُطرح والبيانات التي يجري التوقيع عليها.
ويُذكر في واحدة من هذه البيانات: «إنني على استعداد كامل للتعاون مع السلطات المعنية للحفاظ على سلامة الوطن، والإبلاغ عن أي شيء مريب أو يؤثر على الأمن».
عظامهم تتحطم أثناء تعليق أجسادهم
أما السوريون الآخرون، وضمنهم المدنيون ومقاتلو المعارضة المسلحة في المناطق التي استعادتها قوات الأسد، فقد نصت اتفاقيات الاستسلام التي فرضها النظام ، على «مصالحة» رسمية تديرها الأجهزة الأمنية.
أُلقي القبض على المئات في إطار هذه العملية. ووثقت الجماعات المحلية التي تعمل بمناطق النزاع سابقاً، وضمنها درعا والغوطة الشرقية وجنوب دمشق، ما لا يقل عن 500 حالة منذ أغسطس/آب.
وقالت الأمم المتحدة في الشهر الماضي، إنها وثقت 380 حالة اعتقال في درعا وحدها، وإن ما لا يقل عن شخصين توفيا في أثناء احتجازهما.
التعذيب والإساءات الأخرى شائعة في أثناء الاعتقالات، إضافة إلى استجوابات مكثفة.
قال كثير من الرجال إن عظام الرسغ لديهم كُسرت في أثناء تعليقهم منها بالسقف أوقاتاً طويلة.
إذ يُصطحب الرجال غالباً إلى مكاتب الاستخبارات حيث يشيع استخدام التعذيب والإساءات الأخرى، حسبما تقول جماعات حقوق الإنسان والمعتقلون السابقون.
ويأتي في وثيقة أخرى تستخدمها قوات الأمن المسؤولة عن المدنيين الخاضعين لـ «المصالحة» بالمناطق التي خضعت لسيطرة المعارضة المسلحة سابقاً: «اذكر دورك في الأحداث الحالية ومشاركتك في الاحتجاجات، وأعمال الشغب، والأنشطة الإرهابية المسلحة. واذكر تفاصيل مشاركة أقاربك في الأحداث الحالية».
فرصة ذهبية لتجنيد جواسيس وتعزيز كنز المعلومات الدفين
يصف المدافعون عن العائدين واللاجئين عملية المصالحة بأنها طريقة تستخدمها الحكومة لتوسيع نطاق مستودع المعلومات الشاسع بالفعل، والذي جمعته منذ عهد طويل عن مواطنيها، ولإثبات المعارضة أو الانشقاق في المستقبل.
تعرض وثائق صدرت هذا الشهر عن المركز السوري للعدالة والمساءلة في واشنطن، نوعية المعلومات التي جُمعت قبل ثورة 2011.
حتى إن مذكرات تابعة للأجهزة الأمنية، من ضمنها شعبة الأمن السياسي وشعبة المخابرات العسكرية، تتضمن تقارير حول الرحلات الميدانية لأندية الشباب. وعندما بدأت الاحتجاجات الشعبية، احتوت الوثائق على قوائم متزايدة من أسماء المخبرين. فقد أبلغ المجندون عن مجندين آخرين. وأبلغ الأطباء عن مرضاهم.
يقول الباحثون والدبلوماسيون الغربيون إن أجهزة الأمن السورية تستخدم الآن العائدين لزيادة كنزها الدفين من المعلومات وملء الثغرات التي فُتحت خلال الحرب.
قالت إيما بيلز، الباحثة المستقلة المتخصصة في أحوال العائدين السوريين: «إنهم لا يستفيدون من عملية العودة فحسب، لكنهم يضفون طابعاً مؤسسياً على نظام جمع المعلومات باستخدام المخبرين. من أجل العودة إلى الوطن، يتوجب على نصف سكان ما قبل الحرب النازحين التعاونُ مع مجموعة من وكالات الأمن والاستخبارات المسؤولة عن اعتقال وتعذيب الآلاف من أبناء بلادهم خلال الصراع».
حتى إنه في ظل خشية كثير من السوريين مما ينتظرهم بالوطن، فربما لا يملك هؤلاء مساحة الاختيار بين العودة أو البقاء في المنفى.
إذاً، لماذا يعود اللاجئون السوريون رغم كل هذه المخاطر؟
لدى السوريين الذين يعيشون في لبنان والأردن وتركيا قليل من الحقوق التي تسمح لهم بالعمل في هذه البلدان. وزادت أيضاً صعوبة الحصول على الأوراق الملائمة للبقاء هناك بصورة قانونية، وهو ما يزيد من خطورة تعرُّض السوريين للاستغلال والإساءة، إضافة إلى تقييد إمكانية حصولهم على الرعاية الصحية والتعليم.
هذا فضلاً عن أن أجهزة الأمن في بعض هذه البلدان تُرحِّل أعداداً متزايدة من السوريين، حسبما تقول مجموعات الإغاثة، رغم المخاوف من تعرُّضهم للمضايقات والاعتقالات والتعذيب في بلدهم. تقول منظمة هيومن رايتس ووتش إن بعض السوريين في لبنان أُجبروا على التوقيع على وثائق تقول إن ترحيلهم كان طوعاً.
العودة إلى سوريا أشبه بالسير نحو ثقب أسود
قال نجارٌ سوريٌّ من محافظة حلب يعيش الآن لاجئاً في العاصمة اللبنانية بيروت: «لا نعرف ما يمكن أن نفعله حقاً. بينما أنا هنا، لا يرى ابني إلا أباً غير قادر على تقديم أي شيء إليه، وأواجه خطر الترحيل حتى عندما أذهب إلى العمل. ولكني لا أستطيع العودة [إلى سوريا]. إنه أشبه بالسير نحو ثقب أسود».
عن ” الواشنطن بوست ” للاطلاع على الموضوع الأصلي ، اضغط هنا