عندما، شيئاً فشيئاً، بدأ الساروت يتحوّل إلى أيقونةٍ سوريةٍ عابرةٍ للمشاعر، آثر عديدٌ من السوريين ألا يروه. بل كانت كتلٌ عديدةٌ من المثقفين و(المعارضين) عامدةً تتجاهل وجوده الذي بدأ يحفر في الوجدان الشعبيّ كلّ يومٍ أكثر. لم تره وهو يغني لعشرات الآلاف عن الحرية وعن سوريا الواحدة والشعب الواحد. بل ولم يروه وهو يقف كتفاً لكتفٍ مع الفنانة السورية “فدوى سليمان” في البياضة والخالدية ليمثلا بهذا الظهور الثنائيّ أبهى صور الثورة. لكن، عندما بثت القناة الفرنسية عام 2012 شريطاً يظهر فيه الساروت وهو يردّد مع شخصٍ آخر هتافاً طائفياً؛ بدأت جوقة هؤلاء، وعلى نحوٍ مفاجئٍ، تشير إليه باعتباره يمثل الثورة المنحرفة عن أهدافها. وكأنهم كانوا يتابعون نقاشاً، هم لم ينخرطوا فيه أساساً إلا بصورةٍ سلبيةٍ تكاد تشكّل في بعض أوجهها حالةً بالغة الانسجام مع طروحات إعلام النظام.
لم يكن تحوّل الساروت إلى بطلٍ شعبيٍّ أو أسطورةٍ من نتاجات المخيلة الشعبية التي تضفي على أبطالها صفاتٍ خارقةً فوق بشريةٍ غير موجودةٍ فيهم أصلاً. لم يقسر اسم الساروت المخيلةَ الشعبية السورية على ابتكار الحكايا المتخيلة عنه. لكنه، وببساطةٍ غير متوقعةٍ من شابٍّ في عمره، قدَّم من صفاته وسلوكه للأسطورة كلّ عناصرها لتتكامل بصفتها أسطورة. ظهر الساروت بوجهه المكشوف حين كانت الأكثرية تخفي هوياتها. تواجد في كلّ الأماكن الخطرة التي لم يتخيل أحدٌ يومها ظهوره فيها. غنّى في بابا عمرو حين كان الحيّ محاصراً. دخل إلى حمص المحاصرة حين كان الآخرون يفكرون ويبحثون عن طريقةٍ لمغادرتها. وفي حصار المدينة أكل كغيره أوراق الشجر والزيتون المرّ. وعندما غادرها راح يعمل وأصدقاءه بقطاف الزيتون كي يؤمّنوا كفاف يومهم. وكان، في كلّ لحظةٍ في الثورة وحتى اليوم، يجاور الموت ولا يهابه. بل، وفي الكثير من المواقف، كان يتجرّأ عليه ويتحارَشُه بشجاعةٍ غير مألوفة.
لم يُستجلَب الساروت من خارج المكان والزمان، فقد نبت من بين الناس، وحمَته عيون الناس، وغالباً هو تخلَّق بشكلٍ لا يتلاءم مع صرامة نظريات الكتب. لم يكن قائداً سياسياً، ولا بطلاً حزبياً، سوّقه حزبٌ ما، أو جبهة أحزابٍ بقرارٍ مركزيّ، طَوَّبته بموجبه كبطل. ولذا، ولذات المقدّمات، لن يستطيع أحدٌ اليوم أن يسحب منه ألقابه. فهو ببساطةٍ بطل الناس، والناس لا تكترث كثيراً أو قليلاً بما يردّده المتعالون عليهم. من قلب الناس جاء، وخلال شهورٍ قليلةٍ حقق من الجماهيرية ما عجزت عن تحقيق عُشره كلّ الأحزاب السورية بما فيها “الحزب القائد”… من أحياء الفقراء والمقهورين اندلع عبد الباسط الساروت ليصبح نموذجاً نضالياً لشباب سوريا.. من طُهر الناس جاء، وبين البيوت المهدّمة على رؤوس أصحابها حمل سلاحه.. وعلى بعد أمتارٍ من أسنان جنازير الدبابات تابع غناءه، واحتضنته واحتضنت أغانيه كلّ أحياء البلاد. وعلى طول طريقهِ مشى محفوفاً براحات المظلومين، وبعشرات جنـازات الإخوة والأهـل والأصـدقاء.
المتعالون على الناس (والذين، في أفضل حالات افتراض النوايا الطيبة) أرادوه أن يبقى بلبلاً للثورة، حين كانت كلّ الظروف من حوله تدفعه دفعاً ليصبح النسر الذي هو عليه الآن. وليس بعيداً عن الخطأ القول إن الساروت بتحوّلاته كان ممثلاً أميناً لما دُفعت إليه ثورة السوريين من تحوّلاتٍ لم يكونوا يتخيلونها.
عبد الباسط، ومعه عشرات آلاف الشباب الذين هتفوا للحرية والكرامة، ينسحبون اليوم إلى المواقع التي لم يتمنوها، ولم يتمنّها أيٌّ من الأحرار لهم. وعلى الأرصفة، وخارج دائرة أيّ فعل، هناك من يتبارون لكيل الاتهامات لهم. نعم، التطرف الدينيّ شرٌّ يكاد يكون مطلقاً. ولكن هؤلاء الشباب أبطالٌ. وقد دفعهم العالم دفعاً إلى حيث هم الآن.
في يومٍ ما، في حي الخالدية، كان “باسط” يقف كالرمح ويحرّك ذراعيه كالنسر، ينشد للثورة والحرية والشهداء… وكلما توقف للحظةٍ، كنت أسمعُ النساء والرجال والشباب والأطفال يهتفون “عبد الباسط.. الله يحميك”. لم أشاركهم الهتاف يومها، فقد كنت مشغولاً بمراقبة الضراعة التي تشعّ من العيون حين يذكرون كلمة “الله يحميك”.. هل شاهدتُ فعلاً سرب ملائكةٍ ترفرف فوقه لتحميه؟ لستُ متأكداً.. لكن ما هو أكيدٌ أنه لا يمكن لعدالة السماء أن تخذل الضراعة التي كانت تتدفــــق من تلك العـــيون…
“عبد الباسط… الله يحميك”.