
تظن أن النباح بطاقة عبور إلى التاريخ..!
مأساة حقيقية: حتى التاريخ، بكل دمويّته وسخافاته، يترفّع عن تسجيل عواء.
أنت لست أكثر من ساعة حائط تالفة، تكرّر اللحظة ذاتها بلا انقطاع.
الحقيقة أن العالم يبتلع الضوضاء دون أن يلتفت، وأن وجودك لا يترك سوى ارتعاشة قصيرة في الهواء، ثم يمضي كما لو لم تكن.
أنت حرّ أن تحفر لنفسك جحرًا عند حاوية القمامة، أن تجعل الهواء وجبتك.
لك الحق أن تعيش ككلب، هذا لا ينازعك فيه أحد، فالعالم يتسع للقطيع كله: للذئب الذي ينهش، وللكلب الذي يلهث، وحتى للبعوضة التي لا تملّ مص دمائنا.
الحرية واسعة، يا صاح، لكن مشكلتك أنك تحوّلت إلى مكبّ صوت. كلما ظننت أنك قلت شيئًا، اتضح أن ما خرج من فمك لم يكن سوى صفعة فارغة على أذن هذا الكوكب.
كل صخب بلا معنى يثبت أن العالم يمضي بلا اكتراث.
الصمت نفسه أكثر تأثيرًا من كل عواء. الصمت يحمل وزنًا لا يعرفه عواؤك، ويترك أثرًا يفوق أي صخب. وحده من يعرف متى يختار الصمت يُحسب له الكلام، أما أنت فمعلّق بين صخب لا يُرعب وصمت لا يُحسنه.
إنك مثل حفلة جنائزية بلا جثة: صخب، دموع مُفتعلة، الكثير من الدخان، وفي النهاية… لا شيء.
ضوضاء تُعلن غيابًا لا حضورًا. .
تصرّ على أن تترك أثرًا، لكنك تترك سوى لعاب على الأرصفة. وما أشد قسوة أن يكتشف المرء أن كل ما خلّفه للعالم… مجرد بقعة مبتذلة قابلة للغسل. بقعة تُمحى بمسحة ماء، كما تُمحى الأسماء الزائدة من سجلات الموتى، وكأنك لم تكن سوى خطأ مطبعي في كتاب الحياة.
تصرخ كأنك تُعلن حربًا، بينما في الحقيقة أنت تلعق ذيلك بصوت مرتفع.
العالم لا يحتاج مزيدًا من الصدى؛ يحتاج إلى ما يترك أثرًا، بصمة، جرحًا، أو حتى لعنةً ذات معنى. أما أنت، فأقصى ما تملكه هو ارتطام الهواء بالهواء، صخب بلا قيمة، ضوضاء تكشف الفراغ خلف كل ادعاء.
في النهاية، ستكتشف أن التاريخ لا يُكتب بالعواء، وأن الصخب بلا معنى لا يخلّد، بل يفضح. كل من يظن أن صوته وحده قادر على خلق أثر، عليه أن يعرف: العالم يمضي بلا اكتراث، والتاريخ يسجل فقط من يعرف متى يختار الصمت، ومتى يترك الفعل يتحدث عن نفسه.