
1970/1/12:
– صديقي نضال معلا، الذي قدم إلى حلب لدراسة العلوم الاقتصادية، ابن دمسرخو، الحي الواقع على الحد الفاصل بين الريف الشمالي لمحافظة اللاذقية ومدينتها، وبسبب ذلك ، كما يتناقل بعض العيّارين، جمع مساوئ الطرفين، أهل الريف وأهل المدينة! يهديني مجموعة علي الجندي الشعرية الأخيرة الصادر السنة الماضية عن دار نشر لبنانية، أي خارج سورية، وهذا أمر له دلالته، ذات العنوان “الحمّى الترابية”. قرأته مساء اليوم ذاته، وتأثرت بغنائيته وعدميته! ووجدت نفسي أحفظ عن ظهر القلب المطلع الأول من أوّل قصيدة في الكتاب:
جالس وحدي على مائدة الإيقاع أستجدي
من الصمت قصيدة
طاعن في الوهم
لا شمس على دروبي
قوافيّ حزانى وأمانيّ فريدة
…
ما الذي تعرفه يا سيد “اللون”
عن الدنيا السعيدة…
مفضلًا لا أدري لماذا، كلمة “اللون” في السطر قبل الأخير على كلمة “الحلم” الواردة في القصيدة، ربما لتحسّسي من كلمة “حلم”، وربما لأني منكبّ هذه الأيام على الرسم، وأحببت أن يوجّه الكلام إلي! أمّا نضال وبقية الأصدقاء الذين عرفتهم من دمسرخو، فقد وجدت بهم محاسن الطرفين، مهما كانت هذه المحاسن!
– سكنت في المدينة الجامعية التابعة لجامعة حلب سنتين ونصف، وأظن آن الأوان لأخرج منها وأسكن في حلب ذاتها. فأكون قريبًا من مكتباتها ومقاهيها وناسها، الذين لم أستطع أن أصادق واحدًا منهم لليوم! حتى زملائي الحلبيون في الكلية لا يصادقون غير الحلبيين! أبحث عن غرفة في بيت يستأجره الطلاب بكامله، يتشاركون المطبخ والحمامات. أو غرفة مستقلة عند عائلة حلبية.
– أتنقّل في حلب من حيّ لحيّ ومن بيت لبيت لأجد غرفة ملائمة. كانت إحداها في قبو بيت له حديقة صغيرة حوله، أحببت ذلك، ولكن عندما فتحت لي صاحبة البيت باب الغرفة هجمت علينا رائحة قاتلة لم أشمّ حياتي مثيلًا لها. فلم أدخل! وعندما أضاءت المرأة الغرفة اكتشفنا أن المستأجر السابق الذي غادرها منذ أسابيع، قد ترك قطعة معلاق نيء على الطاولة!
3/15:
– أخذني جورج كوسا الشاب الذي التقيت به أكثر من مرة، في مطعم سندويتش (غروسبي)، لا أدري تيمنًا باسم المغني الأمريكي بينغ غروسبي، أم باسم أحد أعضاء فرقة “غروسبي، ستيل، ناش، آند يونغ”، كان مذهولًا بمعرفتي موسيقى البوب والبلوز! وكان يحبّ فرقة “سانتانا” ولديه اثنتان من أسطواناتها. فأخبرته أن أغنيته المفضلة: “امرأة السحر الأسود” (Black Magic Woman)، مؤلفها ومغنيها الأصلي هو بيتر غرين من فرقة “فليتوود ماك”.
– أخذني جورج إلى بيت في حي محطّة بغداد، يحيا فيه عمته وزوجها، أولادهما خارج البلد. عرّفهم بي على أني مسيحي من اللاذقية، وكنيتي “مصري” لا تمنع من هكذا ادّعاء، وخاصة إذا كنت مسيحي أرثوذوكسي. كما أجبتهم عندما سألوني. فقالت العمة إنه لا مشكلة ما دمت مسيحيًّا. إلّا أن زوجها لم يبد ارتياحه لجوابي.
3/22:
– لم أستطع الاستمرار في الكذب على عمة جورج وزوجها، وظننت أن الحنو والعطف اللذين عاملاني بهما كفيلان بأن يسامحاني على كذبتي التي دفعني إليها قريبهما، فأخبرتهما بأني مسلم، إلّا أن جدتي مسيحية أرثوذوكس، من بيت كوتيه في طرابلس. إلّا أن تقبّل ذلك، حتى وإن رغبا، كما بدا لي، كان فوق طاقتهما. قالت لي الزوج، ذلك أن العمة آثرت ألّا تتدخّل بالموضوع! إني أستطيع البقاء حتى آخر الشهر، دون مقابل، وإن البيت مفتوح لي دائمًا كلما رغبت بزيارتهما.
3/31:
– بعد معاينتي لعدّة أماكن متاحة، انتقيت غرفة في حي “الشيخ طه”، في بيت يقع في الطابق الرابع يحتل غرفه طلاب سودانيون يحتسون الشاي بالحليب في الشرفة صباحًا والعرق مساء، فتتساقط قطرات منه وتفوح رائحته النافذة على الجيران في الطوابق الثلاثة تحته. يطبخان في البيت ويدعواني على الغداء معهما دائمًا. طعامهما المفضّل مخلوطة الخضار باللحم، والكثير من الفلفل الحاد.
– “لا تنفع الشدّة عندما يكون المفتاح خاطئًا”. أكتشف أنّي أحاول فتح باب غرفتي بمفتاح بيتنا في اللاذقية.
4/8:
– جلسة في كافيتريا كلية الآداب، صديقي نعمان كنفاني يقرأ لنا قصيدتين كتبهما مؤخرًا، أذكر منهما: “وترتجفين ترتجفين كالغزلان في الغاب”، و”… زيتونها الأسود… يفيض الشوق ألوانًا وينزف جرحنا المجهد”. أعجبت بالقصيدتين كل الإعجاب، حتى إني وجدتهما أجمل من قصائد محمود درويش، وفي الحقيقة استغربت من قدرة نعمان على كتابة هكذا شعر، ولكن صدّقت! لا أحد يستغرب شيئًا كهذا من فلسطيني؟
4/18:
– بالصدفة، ألتقيت في مقهى الموعد مع الشاعر الفلسطيني عصام ترشحاني، وقرأت له بعض المقاطع من قصيدتي نعمان كنفاني، فيخبرني أن كلا القصيدتين لشاعر فلسطيني آخر، من فتح، اسمه عمر صبري كتمتو! يا إلهي، شكوكي كانت في محلّها.
4/19:
– عندما أخبرت عبد اللطيف عوّاد ومحمد العلج، عن موضوع القصيدتين، أجابني محمّد بأن نعمان لم يقل إنّهما من كتابته، وإن لم يخبرنا صراحة من الشاعر الذي كتبهما.
4/22:
– بينما كنت في زيارة لبسام جبيلي في غرفته ذات النافذة البانورامية في حي العزيزية. نستمع إلى شريط موسيقى كلاسيكية، يحلو لبسام أن يرسم على ألحانها وإيقاعاتها، زاره قريب له من حمص، يحيا في فرنسا، كما علمت، مكث معنا فترة، وقبل أن يغادر قال: “أنتما رسامان حديثان. عليكما أن تستمعا إلى موسيقى الجاز لا إلى الكلاسيك”!
5/6:
– رغم أن سورية عمومًا، ومدينة حلب بدورها، لا تعرف التفرقة العنصرية بين البيض والسود. أقصد أنّه لا يوجد فيها هذه المشكلة. إلّا أنّ أصدقائي السودانيين ليسوا في سعادة كاملة بالحياة بيننا؟ البارحة، عاد عمر عبد السلام من الجامعة وهو يسبّ ويكفر، شاب حلبي ألقى عليه التحية، وهو يقف بانتظار باص النقل الداخلي: “السلام عليكم يا أخي العبد”. فظن بادئ الأمر أنّه يعرفه ويخاطبه بأول كنيته، ولكن تبين أنّه يقصد لونه. فأخبره عمر بكل هدوء وصبر، بأنّه ليس عبدًا بل فقط إنسان عربي مسلم من السودان. فاعتذر الشاب بقوله: “أعتذر يا أخي واللّـه لا أقصد، وأنا واللّـه، أحب العبيد جدًا”!
6/6:
– قال لي مأمون إنه كان من الجيد أني رسمت أمام لؤي كيالي، فقد أبدى إعجابه بخطّي. نسهر على سطح أحد مطاعم حارة بستان كليب. لؤي صامت دائمًا.
7/8:
– الحياة من الديك إلى الديك.
– حضرنا أنا وبسام جبيلي فيلم بيير باولو بازوليني (1966- Uccellacci e Uccellini)، (الطيور الكبيرة والطيور الصغيرة)، عنوانه بالعربية. خرجت متأثرًا لدرجة أني رسمت بالرصاص والشمع عدة لوحات!
9/20:
– علمت الآن من إذاعة BBC، أثناء استماعي لبرنامج “توب توينتي” بخبر وفاة جيمي هندريكس عن عمر 27 عامًا، وجدته رفيقته جثة هامدة في مغطس الحمّام.
9/20:
– متعاطف كلّيًا مع الفلسطينيين في الأردن، وفي سورية، وفي أي مكان على الأرض. نعمان كنفاني، أخو غسان، يكاد يجنّ! ساءه أننا، نحن أصدقاءه، لا نبدي ذات القدر من التأثر.
9/25:
– انسحب السوريون بخسائر حقيقية، كما يتردّد في الأخبار. كنت أعلم بأن ما يجري لن يؤدّي إلى شيء حسن، فإذ به ينتهي بمذبحة.
– ضد الحروب الأهلية، ضد الحروب كلها، مهما كانت ظروفها، ومهما كانت غاياتها. يخالفني بهذا نعمان كنفاني، ويعدّ هذا الكلام طوباوية زائدة، ولكن يوافقني عليه صديقنا المغربي، عبد اللطيف عوّاد.
9/28:
– وفاة عبد الناصر! الناس في حالة ذهول وحزن. أمي وخالي يبكيان، أبي القومي السوري، الذي كان يقال عنه أيام الوحدة إنه انفصالي، والذي سمعته مرّات يقول عن عبد الناصر: “لا ينقصه سوى وضع صوره على أوراق الشدّة”! يخرج إلى الشرفة ويبكي منهارًا.
– جيراننا الأكراد الشاميون، كانوا، بالعكس، فرحين! سمعت أبي، على غير عادته، يكيل لهم السباب، وهو يبكي، ربما لأنّه لم يجد سواهم ليصب عليه غضبه ويأسه. الجميع مصدومون.
10/31:
– يزورنا الأب سالم (اسطفان سالم) مدير مدرسة الأرض المقدسة التي درست فيها حتى الصفّ الخامس الابتدائي، دون أن أتعلم شيئًا، حتى القراءة الصحيحة، بمناسبة عيد الفطر. ظاهر الزيارة هو المعايدة، ولكن كما يبدو، هناك ما يريد أن يتحدّث به مع أبي. يدخل خالي غاندي ويقبل يده. يضحك بصخب وينشر البهجة حوله. يحدّثنا بأنّه لا يشرب الماء، لأنّه، يقول، الماء موجود في الخضار والفاكهة التي يكثر منها، ولا حاجة له لشربه.
11/10:
– يروي لي أبي قصة شاعر طرطوسي قرأ قصيدة له أمام عمر أبو ريشة خلال زياراته لطرطوس، مطلعها: “جمالك طرمبيلًا خيّمتِ على قلبي والله يعلم أني غرامُ”. وحين سأله أبو ريشة وكيف وزنتها. أجابه: “قست كل شطر بالقشّة”.
11/13:
– انتشار خبر اعتقال حاكم سوريا الفعلي صلاح جديد من قبل وزير الدفاع حافظ الأسد!
11/15:
– من شرفة مطبخهم إلى شرفة مطبخنا، رمت إلي ابنة جيراننا (ي. ه) التي تدرس في الجامعة اللبنانية في بيروت ألبوم البيتلز “Abbey Road”، الصادر منذ لا أكثر من سنة. شعرت بعد سماعي له للمرة الأولى والثانية، وكأنني أجبر نفسي علي أن أحبه! ولكن أعترف صورة الغلاف، البيتلز يعبرون الشارع أمام الاستديو يتقدّمهم جون لينون ببدلته البيضاء واضعًا كلتا يديه في جيبي بنطاله، يتبعه جورج هاريسون، وبعده بول مكارتني حافي القدمين، والأخير كما العادة، رينغو ستاركي، رائعة. وهناك أغان جيدة حقًّا في الوجه الأول للأسطوانة. إلّا أن أغنية “Maxwell’s Silver Hammer” سخيفة بالفعل، وأغنية “Octopus’s Garden” كتابة رينغو ستار عازف الطبل، على أنّها متابعة لأغنية “Yellow Submarine” التي كانت بصوته أيضًا، فهي خفيفة جدًّا، كما أن الوجه الثاني للأسطوانة يحتله بول ماكارتني لوحده تقريبًا، فهو، حسبما سمعت، من قام بالعزف على كل الآلات حتى الطبل!
– جورج هاريسون في أغنية “Here comes the sun” في أفضل أحواله. في أنكلترا يحتفلون بالشمس!
11/16:
– يعلن حافظ الأسد نجاح انقلابه. جميع الحزبيين البعثيين، والنقابات والاتحادات على أنواعها، يقفون ضده. بالنسبة لي لم أخف توجسي من الحدث! أغلب من حولي يعدّون الخمس سنوات الماضية، فترة سوداء من تاريخ سورية، لذا فاجأهم موقفي، وخاصة أصدقائي اللوادقة. بينما صديقي الحموي محمد رعدون وصلت فرحته السماء السابعة.
11/18:
– اعتقال مسؤولين سياسيين كبار في سورية، على رأسهم رئيس الجمهورية نور الدين الأتاسي، صديق خالي خالد، وبينهما رسائل متبادلة، ورئيس الوزراء يوسف الزعيّن، وزجهم مع صلاح جديد في سجن المزة.
– يقول لي صديق من أعضاء اتحاد الطلبة في الجامعة، بعثي، إنني صحيح لا أنتمي لأيّ تنظيم سياسي، ولكن مواقفي باتت واضحة. والحقيقة، لم أفهم تمامًا ما يعنيه؟ بعض من أعرفه من أعضاء الاتحاد اختفوا!
11/20:
– يخبرني صديقي أستاذ اللغة العربية ياسر صاري أنه قامت مظاهرةٌ لمجموعة من الناصريين في المدينة، حاملين لافتة كتب عليها:
[دَعْ حافظًا فهو الكذوبُ لشعبهِ…. حَفِظَ الخيانةَ كابرًا عن كابرِ
وولاؤنا أبدًا لأوَّل وحدةٍ…. ورئيسنا الساداتُ بعدَ الناصرِ]
ولكن سرعان ما هاجمت قوّاتُ الأمن المتظاهرين، وفرقّتهم.
11/28:
– في البيت، أسمع عبد العزيز أرناؤوط يقول لضيوفنا ذوي الشعور البيضاء، القوميين السوريين المتقاعدين، الذين يتردّدون أسبوعيًّا إلى منزلنا، إن حافظ الأسد بدأ عهده بعمل يتّصف بالخسّة. يقصد اعتقال رفاقه! ثم يتابع: “تصوروا المسؤول الأوّل عن هزيمة السادس من حزيران، يصير حاكمًا للبلد!”. الجميع بدا وكأنّه مقتنع بهذا الكلام، حتى أمّي! التي كانت جارتنا أم إبراهيم أخت صلاح جديد بمثابة أخت لها. عدا عن موقعها كأمينة سر في فرع الاتحاد النسائي في اللاذقية.
12/24:
– في اللاذقية، مع ماهر ومصطفى ومرام، (ي. ه) في بيروت لحسن الحظ، وإلّا لأفسدت علي عطلة رأس السنة! رغم أنّي أصدق بما تقوله تلك الأغنية: “حبّ سيء أفضل من لا حبّ على الإطلاق”.
1970/12/28:
– أنام منذ يومين عند جدتي في البيت الجديد الذي اشتراه خالي خالد، شارع القوتلي فوق حلويات غزال. ليس بعيدًا عن بيتها القديم في الصباغين.