وجهان للفضيحة: حين يتحوّل القناع إلى موقف

نصان لا يطلبان فهمًا، بل يفرضان مواجهة

ماهر حمصي
مؤسس و مدير بلا رتوش

نصان لا يطلبان فهمًا، يتركان أثرًا
يبدو أنك تقرأ نصين.
لكنك في الحقيقة تُحاكم.
واحد يفضحك حين تضحك، والآخر يدفنك حين تصمت.
لا أحد يُعفى، لا أحد ينجو.
الكتابة هنا ليست موقفًا، إنها محضر إدانة.

تضحك؟ طبعًا.
الضحك آخر قناع قبل السقوط. تمشي مثل إعلان ممزق على جدار متعفن. ترفع يدك للتحية، فيصفعك العالم. ابتسامتك ورق لاصق رخيص. عيناك مصباح ميت، وصوتك صدى يتثاءب في فراغ بارد.

في المقهى، تتبجح بعبارات تشع كالزجاج المحطم: “الحياة فرصة“، “اصنع قدرك“. هراء أرخص من قهوة باردة.
الواقع غادر ينهش أوهامك ويتركك تبحث عن فتات نفسك.
أحلامك عجين مبتل يذوب قبل أن يُخبز.
آمالك ساعة توقفت عقاربها. ومع ذلك تكتب على شاشة مشققة نصًا “ملهِمًا”، لأن التصفيق محجوز لمن يبيع الوهم بوجه وقح.

تصحو كبطل مزعوم، ترتب يومك لوحة خالدة. لكن المهرج الممسك بالخيوط يمزق لوحتك ويقذفها في القمامة. ضحكتك لا تعني الفهم، تعني أنك النكتة ذاتها. مسودة خاطئة في دفتر العالم.

الحزن يتسلل، يجلس بجانبك في حافلة رطبة، يهمس: “لا قيمة لشيء.” فتبتاع ما لا تحتاجه، تضحك مع وجوه لا تتذكرها، لأن الجوائز تُمنح لمن يجيد التنكر.
الموت؟ مراقب صامت، قاضٍ يعرف النتيجة منذ البداية. تبتسم له، لأنك اعتدت على خداع حتى المرايا.
تظل وحيدًا، تتحرك بين حطام يومك بلا شهود.
تسحب من الألم بقايا ذكاء، تحرس نفسك من أن تُبتلع بالكامل. تنبت في شق الحديد حياة تتحدى الخراب. على أنقاض خططك، تصدح أصوات مشروخة، تصدم، تلدغ، وتترك آثارك على جدار العالم، بلا حاجة لضحك يُعاد أو سخرية مستهلكة.

لم يعد المثقف بحاجة إلى جلاد يكمم فمه، فقد تكفّل هو بالمهمة.
يجلس في صمته كأنه ملك متوَّج على عرش من هواء، يتظاهر بأنه يراقب المشهد من علٍ، بينما هو في الحقيقة مخلوع من الداخل، منخور، لا يملك سوى بقايا كلمات ذابلة.

المثقفون هنا يشبهون أثاثًا قديمًا في بيت مهجور بلا نوافذ: مكدَّسون، معفّرون بالتراب، وبلا قيمة. يصرّون على الادعاء بأن لهم حضور، يبيعون ما تبقى من صوتهم في سوق الكلام الرخيص، ثم يشكون من الإقصاء، وكأن الإقصاء لم يكن قرارهم الشخصي منذ البداية.

إنهم بارعون في فن الانحناء. يتقنون خفض الرأس أكثر مما يتقنون رفع القلم. يعتذرون عن كل فكرة جريئة قبل أن يكتبوها، ويستبقون السقوط بمحض إرادتهم. يضعون جبنهم في ثوب “حكمة”، وخوفهم في عباءة “تأمل”، وصمتهم في قناع “عمق”. أي خدعة رخيصة تصلح لتزيين الجثة.

المأساة أن لا أحد نبذهم . بل نبذوا أنفسهم حين اعتقدوا أن الصمت يحميهم من التلوث. لم يفهموا أن الصمت نفسه تلوث، وأن المكان الذي لجأوا إليه صار مقبرة جماعية لأحلام لم تولد.

المثقف الذي يتهرب من مسؤوليته  شاهد زور. صوته الغائب شهادة موقَّعة على موت ما تبقى من المعنى.
وهو إذ يلوذ بالظل، يظن أنه ينجو، لكنه في الحقيقة يذوب ببطء، مثل جيفة في العراء لا يتجرأ أحد على دفنها.

 


يقول محدّثي :
لمّا تخرج الكلمة للعلن …فلا سلطة لك عليها …
كل يرميها بسهم عينه ..

 

ماهر حمصي

إبداع بلا رتوش
إشترك في القائمة البريدية