
من قال: إن العبث فقد خياله؟
نوبل 2025 تثبت العكس. جائزة السلام هذه المرة لم تذهب إلى من أوقف حربًا، بل إلى من فتح بثًا مباشرًا بين كاراكاس والقدس.
ماريا كورينا ماتشادو تصعد المنصة باسم الديمقراطية، فيقفز دونالد ترامب من الكواليس ليأخذ نصف التصفيق… والنصف الآخر من الجائزة.
العالم يضحك، لكنه لا يعرف على من:
على فنزويلا التي تحاول التخلص من مادورو لتقع في حضن ترامب؟
أم على لجنة نوبل التي تظنّ أن السلام يُصنع بتغريدة وشعار؟
في المكتب البيضاوي، وقف ترامب كعادته أمام الصحفيين وهو يوزّع ابتساماته الثقيلة. “تحدثت مع ماريا اليوم”، قالها وهو يرفع حاجبه بثقة، “وقالت : إنها تقبل الجائزة تكريمًا لي، لأنني أستحقها حقًا!”
القاعة صامتة، والعيون تومض بدهشة، كأن الحقيقة قررت أن تتنكر في هيئة نكتة!.
يضيف ترامب: “لقد أنهيت ثماني حروب، أنقذت أرواحًا، ودعمتها ضد النظام الإجرامي في فنزويلا.”
ثماني حروب؟ ربما كان يقصد تغريداته على تروث سوشيال/ Truth Social التي يعتبرها معارك عالمية.
نعم .. إنجازات تليق بنوبل.
لكن اللجنة، على طريقتها الباردة، تجاهلت الدعاية ومنحت الجائزة لماتشادو. عندها خرج ترامب ليصرّح بمرارة المسرحيين الذين لم تُصفق لهم الجماهير: “اللجنة وضعت السياسة فوق السلام!”، كما لو أن السياسة ليست هواءه المفضل.
ماريا كورينا ماتشادو، المرأة التي وُصفت بأنها “لا تُهزم”، نالت الجائزة عن معارضتها ونضالها ضد مادورو، لكنها وجدت نفسها فجأة في مشهد آخر: جائزة سلام تتحول إلى عرض دعائي لتحالف دولي. كتبت على X في 10 أكتوبر 2025:
“أكرس هذه الجائزة لشعب فنزويلا وللرئيس ترامب لدعمه الحاسم!”
ثم قالت لـ BBC:
“تحدثت معه، وأبلغته بامتناننا. إنه حليف لا يُضاهى.”
لم تكتفِ ماتشادو بفنزويلا، بل مدّت خطابها إلى القدس . في مقابلة مع قناة إسرائيلية، أعلنت: “سننقل سفارة فنزويلا إلى القدس، دعماً لا يتزعزع لإسرائيل.”
هي لا تخفي ميولها؛ منذ 2020 وقّعت اتفاق تعاون مع حزب الليكود، ووصفت إسرائيل بأنها “حليف حقيقي للحرية” و”مثال للابتكار”.
وبعد هجوم حماس/ طوفان الأقصى في 2023، أكدت تضامنها الكامل مع إسرائيل، واعتبرت التحالف الإيراني–الفنزويلي “تهديدًا عالميًا”.
هكذا اكتملت المفارقة: جائزة سلام تُمنح لامرأة تعتبر الحرب خيارًا مشروعًا إذا كان الحليف هو واشنطن أو تل أبيب.
على المنصات، انقلب المشهد إلى سيرك عالمي. المحافظون يصفقون: “بطلة الحرية!”، واليساريون يصرخون: “إهانة للسلام!”، فيما اكتفى العرب بالتعليق الساخر: “جائزة سلام تدعم نقل السفارات؟ مرحبًا بمسرح التناقضات!”
ترامب، كعادته، لم يفوّت الفرصة. يستخدم تكريمها ليعيد تسويق نفسه كبطل للسلام العالمي، بينما هي تستخدم اسمه لتوسيع نفوذها خارج حدود كاراكاس. كلاهما يعرف اللعبة: من يصرخ أولاً يكتب العناوين.
لكن المشهد لم يتوقف عند هذا الحد. فقد فجّر معهد نوبل نفسه مفاجأة إضافية حين أعلن أنه يشتبه بتورّط جهات استخباراتية في تسريب اسم الفائزة قبل ساعات من الإعلان الرسمي.
نعم، جائزة السلام التي تُمنح باسم الشفافية صارت هدفًا للتجسس.
الصحف النرويجية كشفت أن احتمالات فوز ماتشادو قفزت على منصة المراهنات Polymarket من 3.7٪ إلى 73٪ بين ليلة وضحاها، بعد أن وضع أحد المستخدمين رهانًا بقيمة 67,820 دولارًا، ما أتاح لثلاثة حسابات جني أكثر من 27 ألف دولار — أحدها أُنشئ في اليوم نفسه.
ببساطة، صار طريق نوبل يُقاس بالبورصة لا بالمبادئ.
رئيس لجنة نوبل، يورغن فريدنس، لم يُخفِ ارتباكه:
“من المرجّح جدًا أنه تجسس… سنحقق في الأمر، وسنشدد الإجراءات الأمنية عند الضرورة.”
أما مدير المعهد، كريستيان هاربيكن، فذهب أبعد قائلًا:
“من الواضح أن معهد نوبل يخضع للتجسس منذ عقود، من دول ومنظمات، بدوافع سياسية واقتصادية.”
هكذا انكشفت المفارقة الأخيرة: جائزة تُمنح لمحاربة الأنظمة السرية، تُدار بدورها تحت رقابة أجهزة سرية!
كل شيء أصبح في مكانه الطبيعي داخل مشهد العبث: ماتشادو تتحدث باسم الحرية، وترامب باسم السلام، ونوبل باسم النزاهة… بينما يتجسّس الجميع على الجميع.
وفي النهاية، لم تكن نوبل 2025 تكريمًا لماتشادو بقدر ما كانت تكريمًا للقدرة البشرية على تحويل المفارقة إلى مشهد رسمي.
ماتشادو تهدي جائزتها إلى ترامب، وترامب يهدي تصريحه إلى نفسه، ومعهد نوبل يهدي تسريبه إلى الأسواق المالية.
العالم يصفق للثلاثة وهو يبتلع ضحكته.
وربما على لجنة نوبل أن تفكر بإضافة فئة جديدة:
“جائزة أفضل تمثيل لدور الضحية في مسرحية سياسية – برعاية الاستخبارات.”
ترامب سيفوز بها دون منافسة، وماتشادو ستكون، كالعادة، شاهدةً على المجد… من الظل.