
حين توقفت العربة المتهالكة عند أطراف القرية في ربيع 2025، شعر الرجل الستيني وكأن الزمن يحمل وزرًا أثقل من الغبار الذي غطّى الطريق.
تطلّع إلى الحقول التي كانت يومًا خضراء، فوجدها جرداء كأن النار عضّتها حتى الرماد.
كان يحمل في جيبه بذورًا، ليست للزرع وحده، بل كأنها تعويذة تذكّره بأيام الزيتون حين كان سيد الأرض.
لكن الجذوع السوداء تقاوم الريح كأنها أصابع ترتعد فرقًا من شبح الماضي، فتنهد وتساءل بصوت بالكاد يسمعه ابنه النحيل: هل ما زالت الأرض تذكرني؟ أم أن النسيان ابتلع كل شيء؟.
بجواره، كان الصبي يمسك بطنه، حيث يسكن الألم كضيف ثقيل لا يرحل.
نظر بعينين عتيقتين إلى المستوصف القديم، فلم يجد إلا جدارًا متصدعًا يحتضن سريرًا صدئًا، لا طبيب فيه ولا دواء، فقط صدى لأنين يتردد بين الركام.
أخته ذات العشر سنوات كانت تمضي بأصابعها في التراب، ترسم خطوطًا تحاكي الأبجدية التي لم تعرفها يومًا، حلمها بسيط: أن ترى سبورة، أن تمسك طبشورة، أن تفهم الكلمات التي سمعت عنها في حكايات الليل.
مع أولى خطواتهم نحو القرية، واجهتهم البيوت كأطلال هامدة، أبوابها غابت، ربما تحولت إلى حطب لتدفئة ليالٍ باردة، وجدرانها تقاتل الزمن كما يقاتل الناس اليأس.
في الساحة المهجورة، كانت امرأة تجمع حجارة متناثرة، لا لتبني بيتًا جديدًا، بل لتضع علامة: هنا كان بيت، وهنا سقط الحلم.
الرماد ليس نهاية، بل فصل مؤجل، والبذور تنتظر اليد التي توقظها من غفوتها
وسط السوق الصغير، لم يكن الناس يبيعون ويشترون فقط، بل كانوا يتبادلون الأمل.
بضع حبات بطاطس، كيس صغير من البذور، وكأنهم يقولون لبعضهم: إذا لم نزرع اليوم، ماذا نترك للغد؟
قربهم ، الفتاة الصغيرة تتابع بعينيها الغبار الذي ترتسم فيه خطوطها، تبحث عن حرف أول يفتح لها باب المدرسة التي تحلم.
في حقل محروق، وقف شاب يدفن البذور في الأرض التي أرهقتها الحرب، لا يعرف إن كانت ستنبت، لكنه يسقيها بعرقه، يراهن على صبرها كما يراهن على صموده.
في زاوية أخرى، كان رجل يبني جدارًا من طين وحجارة، وكأنه يصرخ في وجه الريح: لن أرحل ثانية!
وفي هذه الأرض المنهكة، لم يكن الرماد نهاية، بل كان فصلًا مؤجلًا، والبذور ليست ميتة، إنها تنتظر فقط يدًا توقظها من غفوتها الطويلة.