لماذا ينحني زعماء القارة العجوز أمام ترامب؟

فصل دراسي في المكتب البيضاوي

القادة الأوروبيون ودروس التملّق: خضوعٌ على مذبح المصالح

في مشهدٍ تراجيديٍ لا يُنسى، بدت أوروبا كأنها تخلع ثوب الكبرياء لتكتسي عباءة الخضوع. لم تكن الصورة التي جمعت قادة أوروبا حول مكتب دونالد ترامب مجرد لقطة دبلوماسية عابرة، بل هي إعلانٌ صريح عن استراتيجية جديدة: التملّق كوسيلة ضغط. هذه ليست وقفة تبجيل، إنها رقصة توازنٍ دقيقة على حافة الهاوية، حيث يكمن الهدف في استمالة رجلٍ لا يفهم سوى لغة المصالح الآنية والإطراء الشخصي.


يُمكن قراءة هذا الإذعان كفصل جديد في كتاب العلاقات الدولية الذي تُسطّر فصوله الولايات المتحدة الأميركية. فبعد أن كان زعماء أوروبا يتحدثون عن “الاستقلال الاستراتيجي” و”السيادة العسكرية”، تحوّلت لغتهم فجأة إلى لغة الإطراء والمديح. إنها لعبةٌ محكمة، لا تتجاهل فيها أوروبا حقيقة أن ترامب لا يولي اهتماماً للمبادئ بقدر ما يولي اهتماماً للمكاسب الآنية.

لقد كان الاجتماع الذي جمع ترامب بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في 28 فبراير بمثابة درسٍ قاسٍ في فنون الإذلال الدبلوماسي. فمنذ تلك اللحظة، تحوّلت لغة القادة الأوروبيين من الحديث عن “الاستقلال الاستراتيجي” إلى المديح الممنهج. جورجيا ميلوني أدركت أن ملاطفة ترامب بشأن الرسوم الجمركية قد تكون مفتاح الحل، بينما قدّم المستشار الألماني فريدريش ميرتس لترامب شهادة ميلاد جدّه الألماني، في لفتةٍ أشبه بطقس ولاءٍ غريب.

هذا النفاق ليس حلاً مستداماً، بل هو مجرد درعٍ مؤقت يحمي القارة من عاصفةٍ محتملة. ورغم أن هذا التكتيك قد يُحقّق بعض المكاسب على المدى القصير، مثل تجنّب رسوم جمركية كارثية أو استمرار وجود القوات النووية الأميركية، إلا أنه يُغذّي وهماً بالاستقرار. هذا المظهر يُخفي حقيقة أن أوروبا اليوم لا تمتلك وحدة، ولا قوة، ولا قيادة حقيقية. هي تعيش على ركامٍ من التظاهر والاعتماد على الآخر، بينما تتسع الشقوق بين دولها يوماً بعد يوم.

هذا المشهد يُسلّط الضوء على مفارقةٍ تاريخية: أوروبا، مهد الحداثة والديمقراطية، تجد نفسها اليوم في موقفٍ أقرب إلى التبعية السياسية، مُقدّمةً كرامتها على مذبح المصالح. إنها لحظةٌ فارقة في تاريخ القارة، تُظهر هشاشة الاتحاد الأوروبي وعجزه عن تحقيق سيادته الكاملة، مما يجعلها عرضةً للمساومات والأمزجة السياسية، لا سيما في مواجهة شخصية كشخصية دونالد ترامب.

وراء مظاهر التحالف والتفاهم بين الولايات المتحدة وأوروبا، يتصاعد توتر خفي ينذر بانفجار محتمل. فبينما تتعامل واشنطن مع شركائها الأوروبيين بثقة مفرطة، تضع جزءًا من ترسانتها النووية في أراضي دول أوروبية، ومنها ألمانيا، في إطار ترتيبات حلف الناتو الدفاعية، وكأنها تسلّم أدوات الردع الأخطر إلى أطراف قد لا تشاركها الثقة الكاملة.

قد يظن بعض القادة الأميركيين أن الاتفاقيات والصفقات مع أوروبا تعكس ولاءً متبادلاً، لكن الواقع أكثر تعقيدًا. فخلف ستار الدبلوماسية، تتشكل ملامح صراع محتمل، حيث لا تكفي الكلمات المعسولة لردع الطموحات المتضاربة أو إخفاء الاحتقان المتراكم.

هذا المشهد يُؤكد أن أوروبا، رغم مظاهر التواضع، لا تزال تملك قدرة مذهلة على التظاهر، في حين أن ترامب، رغم صفقاته، قد يكون على وشك السقوط في فخ نفاقٍ أوروبي مُتقَن. فهل ستستمر هذه الهدنة الهشة، أم أن الانفجار بات وشيكاً؟

 


يقول محدّثي :
لمّا تخرج الكلمة للعلن …فلا سلطة لك عليها …
كل يرميها بسهم عينه ..

 

ماهر حمصي

إبداع بلا رتوش
إشترك في القائمة البريدية