“شَهْبور”.. وحلم الموت تحت التعذيب..لـ : مالك داغستاني

مالك داغستاني
كاتب سوري

“شَهْبور”، هكذا صاح العقيد علي إسماعيل رئيس فرع الأمن العسكري بحمص حين كنت أقف أمامه ويداي مقيدتان للخلف. ولم يكد ينهي الحرف الأخير من صرخته حتى اندفع إلى الغرفة خمسة أو ستة “شهابير”، إن كان يمكن جمع هذا الاسم باللغة العربية، وهو الاسم الحركي لكلِّ جلاد لدى سيادة العقيد، لتبدأ منذ تلك اللحظة تجربتي مع كل ما كنت قد سمعت أو قرأت عنه من أساليب التعذيب التي لم يكن يخطر على بالي يوماً (لقلَّةِ واقعِيَّتي) أنني سوف أعيشها دفعةً واحدة، وبفيضٍ من الكَرَم.

خلال ثوانٍ كان جسدي محشوراً ضمن إطار (دولاب سيارة) قديم. أعتقد أن الدولاب ذاته لم يخطر بباله أيضاً أنه سيمضي فترة التقاعد في هذه الغرفة ليمارس هذا الفعل الإستثنائي، احتضان أجساد المعذبين ومنعها من الحركة وهي تتلقى ضربات الجلادين. وبالتأكيد لم يكن يخطر ببالنا، السيد الدولاب وأنا، أننا يمكن أن نتعارف بهذه الطريقة المُحرجة وفي هذا المكان المُخجل. حين أخرجني أحد الشهابير من الدولاب اعتقدت لسذاجتي أن التعذيب قد انتهى. كنت تقريباً قد فقدت معظم قواي ولكن الأهم أنني كنت قد تعرفت على خاصية جديدة ومذهلة لديّ، وحقيقةً لم أكن قد انتبهت لها من قبل. إنه صوتي أو صوت صراخي، فأنا ككل الناس وفي حياتي الاعتيادية أصرخ أحياناً لأنادي شخصاً بعيداً عني بهدف أن يسمع ندائي عليه، وفي حالات قليلة أخرى قد أصرخ متذمراً من موضوعٍ مزعجٍ ما، أما صوتي الذي أتحدث عنه هنا والذي جعلني الشهابير أطلقه وبالتالي أسمعه فهو بحاجة لإعادة تعريف جديدة لمعنى كلمة “صراخ”. هل كان صوت ذئب. كما يحلو للأدباء الرومانسيين الوصف؟. لا لم يكن كذلك. هو شيء آخر ومختلف تماماً. ولن أستطيع وصفه سوى لو أنه كان صوت وحش أسطوري لا وجود له بالواقع، صوتٌ عمل عليه فنيون مختصون بالمؤثرات، لاستخدامه في لحظةٍ فارقةٍ من فيلم ملحميٍّ ما. ولو أن أحداً قد أسمعني تسجيلاً لهذا الصوت لأنكرت ليس فقط بأنه لي، بل وحتى أني يمكن أن أعرف صاحبه. هذا إن سلَّمنا أني استطعت الاقتناع، وهذا بالغ الصعوبة، بأنه صوتٌ بشري.

اقترب أحد الشهابير من قدمي وهو يمسك بسلك كهربائي بين أصابعه وراح يلف السلك بإحكام حول إصبع قدمي الصغرى وطبعاً غني عن القول أن كلتا قدماي كانتا تنزفان من آثار الضرب بكابل نحاسي غليظ مغطى بطبقة من المطاط، كانوا يدعونه الرباعي (الكابل الرباعي)، وكان شهبورٌ آخر يعلق سلكاً ثانياً ينتهي بملقط معدني صغير في شحمة أذني ويضغط بشدة، والحقيقة لست أكيداً إن كان قد تقصَّد إيلامي، أم أنه تصرَّفَ بعفوية ليتحقق بأنه أنجز عمله الروتيني بدقة. آلمتني أذني فصرخت بصوت خفيض “آآآخ”. لم أعرف لماذا جميعهم باستثناء السيد العقيد قد انفجروا بالضحك. أحدهم علق وهو ينهي ضحكته موجهاً كلامه لسيّده: “عم يقول آآخ سيدنا!!.. عم يقول آخ!!”.
معلوماتي عن الكهرباء لم تكن تتعدى قبل ذاك اليوم ما تلقيته في دروس الفيزياء المدرسية، إضافةً لبعض التجارب البسيطة كإصلاح وصلة كهربائيةٍ ما أو استبدال مصباح محروق. وكانت تلك فرصة نادرة توفرت لي كي أُثري معلوماتي وأعرف عن الكهرباء أكثر. ومع ذلك لا أجد مهماً الآن شرح مفاعيل الكهرباء في الجسد. وأنا لليوم أتساءل كل ليلة حين تصيبني رجفة صاعقة في الرأس عند بدء محاولة النوم، هل هذه من آثار الكهرباء التي ما زالت تتجول في جسدي أم أنها مقدمات لمرض عصبي ما؟. كان السيد العقيد يهز برأسه فيستجيب ذاك الشهبور الكهربائي، الذي تتعلق نظراته (وهي تتقافز من عينيه) برأس سيده وكأنه بانتظار أوامر دقيقة وحاسمة لإطلاق صاروخ فضائي ملتزما بالعد التنازلي للثواني الأخيرة، حيث الخطأ ممنوع. فكان يشغل الكهرباء قبل حتى أن تنتهي هزة رأس سيده. ولم يكن مهماً لي، ولربما لم أنتبه لحظتها للحركات العصبية الراقصة لجسدي المرافقة لتلك المرورات الكهربائية، ولا يبدو لي أن الحديث عن الصدمة التي لا يمكن شرح ماهيتها أصلاً حين كنت أتلقاها من جهة أذني أمراً ذي بال. الحقيقة أن الأهم من كل ذلك أنني بعد أن كنت جالساً على الأرض قبل تلقي لسعات الكهرباء، وجدت نفسي وبعد أول جولة للكهرباء في جسمي متمدداً على ظهري ويداي المقيدتان تتلقيان ثقل جسدي تحتي مع كل انتفاضة كهربائية لجسمي. كانت كل ارتجافة للجسد تجعل ذاك القيد ينغلق على المعصمين أكثر مما جعلني أو جعل ذاك الوحش في داخلي يطلق مع كل ضغطٍ جديد على المعصمين ذاك الصراخ الهستيريّ الملحميّ المهيب. كان القيد مُصَممٌ بتلك الآلية الميكانيكية اللئيمة التي تجعل أسنانه قابلة لتضييقِه على المعصم بفعل الضغط دون أن يكون قابلاً للعكس إلا باستخدام المفتاح المخصص، وكأنه يمتلك أمراً إجرامياً بعدم الرجوع عن ذبح المعاصم دون مفتاح سيّده. سأعرف فيما بعد، وبعد أن عانيت من الخَدَر في معصمَيَّ وأصابعي لعدة شهور تالية، أن ذاك القيد كان صناعةً إسبانية. ولأني لم أكن أريد النيل أو تناول بلد أو شعبٍ بكامله، فكرت حينها أنه على الأرجح بل ولا بد أن الشخص الذي صمَّم ذاك القيد يمتلك خيالاً سفيهاً وإجرامياً موروثاً، وأنه، هو أو أحد أفراد أسرته على الأقل، قد شارك باغتيال الشاعر “لوركا”.

“ولك والله عيب عليكُن.. فكوا عنو الكهربا للأستاذ مالك” بهذه الحيادية التي تميل للَوم الشهابير قليلاً، ألقى السيد العقيد أمره بإنهاء جولة الكهرباء. وأنا وبسبب ألمي ولهجته الجديدة تجرأت وطلبت منه أن يفكوا لي القيد الذي كان قد ذبح معصمَيَّ، فما كان منه إلا أن هزَّ رأسه مع اتساع في فتحة عينيه، وخيالُ ابتسامةٍ تبدو من زاوية فمه، وكأنه كان مستعداً فعلاً لتلبية طلبي. وأجابني ” وَلَوّ يا أستاذ. أنا بذات نفسي رح فكّلك ياهن” وفعلاً اقترب مني وهو يصرخ على أحد الشهابير “قَرِّبْ” وبدون مقدمات وضع إحدى قدميه فوق رقبتي عند الحنجرة تماماً واتكأ على كتف الشهبور كي يوازن جسمه، ثم رفع قدمه الأخرى عن الأرض.. أنا لم أخبركم حتى الآن أن وزن سيادة العقيد بحدود المائة كيلوغرام وربما أكثر قليلاً. ولحسن حظي أن هرس الحنجرة لا يحتاج عادةً لدى من يمتلكون هكذا وزن لأكثر من عدة ثوانٍ. عندما انزاح الحذاء المدعوم بكتلة اللحم تلك عن حنجرتي كنت قد وصلت لقناعة أكيدة بأن ملاك الموت قد ترك كل مشاغله، وهو يُحوِّم الآن فوق مبنى الفرع أو أنه قد صار داخل المبنى وربما يكون مُنتظراً أمام الباب كي لا يتأخر في إنجاز مهمته العاجلة وشيكة الحدوث. فيما بعد سيصيب صوتي بحَّة اعتقدت أنها انتهت تدريجياً بعد شهور، ثم سأصحح هذا الاستنتاج خلال أول زيارةٍ سُمحت لي بعد أكثر من ثلاث سنوات، عندما بادرني إخوتي من خلف الشبك المعدنيّ بالسؤال “ليش هيك متغيّر صوتك؟”.
بعد نزوله الرحيم عن حنجرتي لم أعرف تماماً لِمَ خطر للسيد العقيد مداعبة شفتي السفلى. هكذا بلطفٍ شديد، مدّ حذاءه إلى فمي وبمقدمته راح يداعب شفتي السُفلى برفقٍ ويحركها يميناً ويساراً ثم سحبها للأعلى قليلاً وحين اطمأن إلى أنها تركَّزتْ تماماً بين نعله وأسناني وهوينظر جيداً ويراقب وربما يراجع باهتمام إحداثيات أهدافه الجديدة.. فجأةً ضغط بقوّةٍ. والحقيقة وحتى لا أظلمه لا أعلم إن كان استخدامي هنا لكلمة “قوَّة” موفقاً، فأنا لست متأكد أنه قد استخدم كل قوته بالضغط، ولكن ما أنا متأكدُ منه تماماً أن باطن شفتي قد تفَزَّرَ بعمقٍ، وأن أسناني الأمامية قد تخلخلت وبدت أنها ستسقط وأن الدماء كانت تندفع من فمي وتسيل على وجهي.

بدأ الحلم الوردي للموت عبر كسر الرقبة والنجاة من ذاك الجحيم يحتل كامل روحي.

في اليومين التاليين كان الوضع روتينياً جداً. فقد نلت نسخاً مكررةً من جولة التعذيب هذه، حتى بدت لي أنها محفوظة لديهم بتسلسلها المعتاد. ومرة تخيلت أن لدى سيادة العقيد مساعد ما، يشبه عملُه عملَ مساعد الطيّار حين يقوم قبل الإقلاع بتلاوة سلسلة التعليمات للتأكد من تنفيذها دون أي نقصان قد يودي لكارثة.
التغيير الوحيد الذي لحظته كان في ديكور الغرفة، فمكتبتي التي صادروها من بيتي أثناء الاعتقال كانت تتكوم في زاوية الغرفة، وإلى جانبها ينتصب كيس كبير مملوء بالفستق الحلبي (يبدو أنه من مصادرات شحنات المهربين) ويبدو أن الشحنة كانت تضم إضافة للفستق ربطات من دواليب للدراجات الهوائية. ومن الغرفة المجاورة كنت أسمع صراخ رجل يتعرض للضرب، وما فاجأني أنهم كانوا يضربونه برفق مستخدمين أحد الدواليب المصادرة بدلاً من الكابل الرباعي، كم تمنيت لحظتها لو أني عملت بتهريب الفستق الحلبي.
في الزنزانة الإنفرادية وهي بعرض أقل من متر وبطولٍ قد يصل إلى المترين، كنت أرقد فوق بطانية كان زملاءٌ سابقون قد وسخوها بدمهم وقيح أقدامهم مما أشعرني بالقرف بداية دخولي الزنزانة، ولكن مع مساهمتي اليومية في متابعة وتعزيز ما فعلوه بها، عدتُ وتعايشت معها كما هي وبكثير من الرضا، بل ومع بعض الحب أيضاً. قبل اعتقالي الذي هو حالة متوقعة بالنسبة لي، كما بالنسبة لأي سوري يحاول أن يفكر بطريقة مختلفة ولو قليلاً عن القادة المُلهَمين، كنت أتساءل كيف يمكن لي أن أمكث في زنزانة إنفرادية خاصة لو كانت معتمة، فأنا مصابٌ برُهاب الأماكن الضيقة.
وفعلاً فقد عانيت أول دخولي الزنزانة من الأمر لدرجة جعلتني أقترب من الشَرَّاقة العالية، وأبقي عينيَّ مثبتتين على الضوء الشحيح الذي يتناهى منها، كي لا يتوقف تنفسي وأشعر بالإختناق، والشَرَّاقة هو الإسم المعتمد لفتحة مربعة صغيرة في باب الزنزانة ترتفع قليلأ عن الرأس. ولحسنِ، بل ولوفرة حظي، فإني قد شفيت تماماً من مرضي النفسي بعد أول جولة للتحقيق، ويجب عليَّ هنا، ومن باب الموضوعية المطلوبة، ألا أنكر أن للتعذيب بعض الفضائل مهما بدا وكأنه حالة بدائية ووحشية وإجرامية. فيما بعد سوف تتغير كامل فلسفتي عن الأماكن الضيقة، لأصبح على قناعةٍ تامّة بأنها تنضوي على الكثير من الحنوّ والحميمية وتمنحك الكثير من الخصوصية والشعور بالسكينة والقدرة على التأمل. ومع ذلك وفي ذاك الفرع الأمني فإن الزنزانة الإنفرادية ورغم أنها تشكل ملاذاً آمناً من السيد العقيد، إلا أنها كانت محاطة دوماً بالرهبة والخوف.
كنت سأشعر بالدُوار، وتنفر من كل مساماتي حبّات العرق بمجرد سماعي صوت أقدام السجّان تقترب، وقبل أن يكمل الحرف الأخير من جملته المرعبة “اطلع يا عشرة” والعشرة هنا ليست شتيمة كما كان يحلو له أن يلفظها. إنها فقط رقم الزنزانة.

كيفية تحول الموت إلى حلمٍ للخلاص من التعذيب

في اليوم الثالث من إقامتي في الزنزانة، وكانت ساقاي وتحديداً قدماي قد أصبحتا شيئا منفصلاً عن جسدي تماماً، على الأقل لناحية التناسب الحجميّ، وبسبب فقداني عدة أظافر، حيث كان السيد العقيد وبطريقة بارعة وتدعو للإعجاب، يمسك الكابل ويسدد بطرفهِ على أظافري، وفعلاً كان ينجح في الإصابة معظم المرات، وبعد عدة محاولات كان يطمئن إلى أن ظفري قد “انقَلَع” أو أنه على الأقل سيسقط تلقائياً فيما بعد.
كانت كل ألوان السوائل تنزّ من قدميّ، وإن كنت سأستطرد قليلاً في الشرح، فإن جسدي كله وتحديداً كامل فتحات الجسد كانت تنزف دماً الفم والأنف وواحدة من الأذنين التي ثقب غشاؤها، ومن المفارقات التي لم أفهمها أني كنت أبول دماً. فيما بعد سيشرح لي أحد الأطباء من زملاء سجن صيدنايا أنها حالة عادية ترافق حالات التعذيب.
في يومي الثالث ذاك كنت قد وصلت لقناعةٍ مؤكدة أنني لن أحتمل المزيد من التعذيب والألم. وكنت في جولة التعذيب الأخيرة قد جُلتُ بنظري في الغرفة وعلى أجسام الجلادين، لأرى فيما لو كان يوجد أي سلاح ناري. فرغم أني مقيّد اليدين قلت لنفسي قد أستطيع أن أصل إليه لأقتل نفسي، سوء الطالع،
كما خمنت في تلك اللحظة، جعلني لا أعثر على أي سلاح. سأعرف فيما بعد ومن خلال القراءة عن هكذا مواضيع أنه ممنوع ٌعلى الجلادين إدخال السلاح إلى غرفة التحقيق، خوفاً من حالات الجنون كالحالة التي خطرت لي.
إذاً لا سبيل لتنفيذ هذه الفكرة واقعياً. في الزنزانة كان طموحي أقلّ، وخطر ببالي أن عرض الزنزانة يتيح لي فيما لو وقفت ووجهي قريباً وقبالة الباب، ثم فتحت ذراعاي وساقاي لتصلا للجدارين المتقابلين يمكنني التسلق قليلاً للأعلى بواسطة الضغط، بما تبقى لجسدي من قوة، على الجدارين بالقدمين واليدين، وعندها سيكون بمقدوري أن أُدخِلَ رأسي أفقياً في الشرَّاقة ثم إن أفلتُّ الجدار وأسلمت جسدي للجاذبية فسوف يبقى رأسي مُطِلاً على الممر يراقب بصورة أبدية السجان وأبواب الزملاء، وسوف يتدلى جسدي داخل الزنزانة. فعلاً كانت تلك الفكرة هي الأكثر عبقرية للنجاة من التعذيب.
وبدأ الحلم الوردي للموت عبر كسر الرقبة والنجاة من ذاك الجحيم يحتل كامل روحي. طبعاً ستفشل خطتي تلك أيضاً فشلاً لايقل قسوةً عن سابقتها بمجرد الشروع بتنفيذها. فأنا لم أستطع أن أقنع أو حتى أجبر قدمي على مجرد التفكير بملامسة الجدار حتى قبل التفكير بالضغط عليه. قدمي المسكينة كانت مهترئةً ومغطاة بكل أنواع العفن ومن كل الألوان..
فيما بعد وحين سأُنقل إلى “فرع فلسطين” في دمشق سوف ترعبني ملاحظة أدلى بها أحد السجانين عفوَ الخاطر وأنا على بوابة الدخول: “منّين جاي هادا، من فرع حمص؟ لعمى بعيونن شو إنن مابيعرفوا يحققوا. شو منفّضيلوا غبرة عن رجليه”. وتساءلت برعبٍ، إن كانت حالتي وحالة قدميَّ بشكل خاص هي بالنسبة لفرع فلسطين تعتبر كنفض الغبار. يا إلهي إذاً مالذي ينتظرني هنا؟.هل كان عليَّ أن أجهد نفسي في فرع حمص وأحتمل أكثر في محاولتي للنجاة من التعذيب عبر بوابة الموت؟
ليست لدي اليوم، خاصةً من هذا البعد الزماني، أي إجابة جاهزة أو مكتملة لتبدو أنها واقعية، أو مُقنعة بأقل الأحوال. ولكني سعيدٌ أني لم أستطع تنفيذ ما انتويت القيام به، فها أنا بعد ست وعشرين سنة على ذاك اليوم مازلت أحيا، وسأعترف بأني خلال هذه السنوات قد عشت لحظات بالغة الروعة. وتعرفت بأناس أفخر أني التقيت بهم، ويرضيني العديد مما قمت به خلالها. ومع ذلك يبقى أنَّ أهم ماحدث لي بعد تلك التجربة، هو أنني شهدت ما كنتُ قد كففتُ حتى عن الحلم به. رأيت السوريين يخرجون ويصرخون من أجل الخلاص من تلك الجريمة المستمرة.

اليوم، وأنا أشاهد بعضاً من صور أحد عشر ألف سوري قُتلوا تحت التعذيب والتجويع المُتعمد في سجون الأسد الإبن، وأتأمل آثار التعذيب التي ما زال جسدي يحتفظ بها، لن أدَّعي أني أعرف تماماً عن الموت تحت التعذيب، فهي تجربة لم أعشها وربما الأصح لو أني قلت: لم “أَمُتها”. ولكني متأكدٌ أني عرفت الكثير الكثير عن كيفية تحول الموت إلى حلمٍ للخلاص من التعذيب.


يقول محدّثي :
لمّا تخرج الكلمة للعلن …فلا سلطة لك عليها …
كل يرميها بسهم عينه ..

 

ماهر حمصي

إبداع بلا رتوش
إشترك في القائمة البريدية