“لو أن بعض النساء ، ذوات الأنوثة الواسعة، قدن العالم لكان من المحتمل أن يكون متخلفاً ألف سنة، عما هو عليه، لأنه ظل مشخصاً، إنسانياً ، منظماً.ولكنه كان مستقراً ..فالمرأة من الناحية السيكولوجية، بطن واسع الأرجاء … فالعالم يصبح بالنسبة إليها إبناً هائلاً يطلب يقظتها وحنوها … ولكنها إن لم تحرسه …فإن بطنها يستحيل إلى مخنق ضخم، يبحث عن الاحتفاظ بمن ولد…”
بيير داكو
الجزء الثاني
لا أعتقد أن ثمة ملحمة، تستهوي العقل والوجدان، أكثر إغراء من حركة الجنس البشري في مسيرة الحضارة، بالبحث في تلك اللحمة الحميمة الدافئة بين الرجل والمرأة، عندما تنضج المعرفة، ويتقدس السر الإلهي، في تلك المقاربة .. بإرواء الرحم الإنساني بالمني المخصب، تماماً كإرواء السماء للأرض بالمطر والينابيع .. فينبت الزرع وتثمر الأشجار وتمتلئ الضروع.. وتهدأ النفوس.
صورُ نقلتها المخيلة الشعرية، عبر الرقم الطينية المسمارية في حضارات وادي الرافدين، ومثلها النحاتون رموزاً دينية حيناً،وواقعية أحايين أخر، في كل تفاصيل جسد المرأة الإلاهة ” إينانا” في شواهد الآثار عند السومريين، وغيرهم من الأقوام التي احتكت بهم أو نقلت عنهم، كالأكاديين الذين أسموها “عشتار” وكذلك البابليين و القبائل العربية في شبه الجزيرة الجنوبية الذين أسموها “عثار” أو عطار” والكنعانيين الذين أطلقوا عليها اسم “عشتروت” والإغريق الذين لقبوها “إفروديت” والرومان الذين جعلوها ” فينوس”.
أكثر من عشرة الآلاف عام قبل الميلاد على اكتشافها، وترميزها جسداً وإلاهاًً وأرضاً وجنساً مصعدا،ً وقصتها مستمرة في المخيلة الآسرة .. لحين ولادتها من إله القمر السومري “سين” في الألف الثالثة قبل الميلاد بظهور الممالك العظيمة واختراع الكتابة والتدوين ..وما السطور القادمة عنها إلا من خلال الوثائق الأثرية والمدونات المسمارية والمنحوتات الغزيرة والمكتشفة في أكثر بؤر الإبداع الحضاري إشعاعاً في العالم القديم.
• عقائد ورموز
ثمة تشابه بين المحارات (الصدفة البحرية) وبين الأعضاء التناسلية الخارجية للمرأة، خصوصاُ عندما يشار إلى ذلك في اللؤلؤة المتشكلة داخل المحارة دالة على فرج المرأة وخروج الجنين منه . هذا الاعتقاد بالربط مع قوى سحرية جاذبة للإنسان القديم، بين العضو الأنثوي والأصداف والمحارات، حضور قوي وفعل جاذب لقوى خارقة تطلقها رموز الأنوثة بشدة ( عند الإغريق القدماء خرجت آلهة الحب والجمال “إفروديت” من محارة ضخمة كاللؤلؤة وكانت شعار الحب والزواج ) والملفت أن رموز المحارة نجدها عند كل الشعوب القديمة، بدءاً من عصور ما قبل التاريخ، وحتى اليوم، في اللآليء التي تلتمع كالأقمار في جيد النساء، باعتبارها رمزاً غنياً للخصوبة التي تجدد عملية الولادة، وظُن على وجه التحديد أنها تبعد العقم في ذهنية الإنسان الزارع، ذكراً كان أم انثى والذي بدأت تعنيه فكرة الإنجاب لارتباطه بالخصب الأرضي، فكلما أراق منيه أكثر في الأرحام كان محصول غلاله، أوفر وأضحت حملانه وعجوله أكثر عديدا.
لذلك كانت ممارسات بعض التجمعات البشرية الزراعية تشير إلى ممارسات جنسية فردية وجماعية، كانت تتم مباشرة تحت السماء وعلى تماس مباشر بالأرض، وفي الحقول والبساتين في أعياد الربيع، كي تزهر النباتات وتثمر الأشجار وترتوي الأرض مثلما تروى الأرحام بماء اللذة لإخصاب المواسم الزراعية باعتبارها النموذج الإلهي في الزواج بين الإله المخصب : السماء الماطرة + الأرض الأم المنجبة، بتحريض جنسي جنوني لا حدود له من وجهة نظر دينية تتوافق مع حال اللا تمايز ( العماء) التي كان عليها العالم قبل خلق المخلوقات، فالاختلاف والفوضى، وكذا التحلل من القيود الاجتماعية، كل ذلك كان يرمز إلى انكفاء في حالة اللا شكل التي سبقت خلق العالم، وكانت هذه الطقوس الجنسية تتكرر كل عام أو موسم، لأن الموسم الجديد يساوي خلقاً جديداً، من أجل ضمان ولادة جديدة وكلية للحياة وبالتالي خصوبة لا محدودة للأرض ووفرة للمحاصيل.
يقول ” مرسيا الياد”:” ليس ثمة وسيلة لفهم سلوك إنساني في عالم عقلي غريب، إلا أن نتمركز فيه من الداخل في بؤرته بالذات، لكي نصل إلى جميع القيم التي يسلكها أو يتمسك بها، ففي منظور الإنسان، الديني، الذي ينتسب إلى المجتمعات القديمة : إن العالم موجود لأن الآلهة خلقته وإن وجود العالم نفسه يعني شيئاً ما، فالعالم ليس أخرساً، ولا شيء جامد لا هدف له ولا معنى، إن حياة الكون نفسها برهان على قداسته ،ما دامت الآلهة قد خلقته، وهي تتجلى للناس من خلال الحياة الكونيــة، وهو بذاتــه ( الإنسان) جزء من خلق الآلهة، وبتعبير أدق هو يكشف عن ذاته بالقداسة التي خلق بها الكون، وعرفها هو، ذلك إن حياته مماثلة للحياة الكونية، بما هي عمل إلهي، فتصبح صورتها النموذجية في الوجود البشري”.
من أمثلة ذلك أن الزواج يقوم على أنه زواج مقدس بين السماء والأرض، فالأرض المفلوحة هي المرأة،والبذار هو المني، والعمل الزراعي هو في تلك اللحمة التي يقتضيها الحال في اللقاء الجنسي الذي يفضي إلى الرعشة المخصبة.
كما كان لهذا الجنس الجماعي، غايات اجتماعية وإنسانية، تحقق في الوقت ذاته أهدافاً بيولوجية هامة، فالنساء اللواتي كانت علاقاتهن الجنسية مع أزواجهن علاقات غير مثمرة على صعيدي الانسجام الجنسي واللذة المشتركة، أو عدم الإنجاب، فإنهن يمنحن فرصة خاصة للتعويض أو الإنجاب، مما يزيد في قدرة هذه الجماعات على البقاء، ويدعم عملية التنوع الضرورية لتخليد كل الجماعات المشتركة في تقديم خصائصها البيولوجية ربما عن دون قصد.
كل هذه العوامل الآنفة الذكر، وعلى رأسها المخيلة الثرة للإنسان القديم، ساهمت في التعرف على قدرة السائل المنوي في تخصيب الرحم بالأجنة، وإن كانت المصادر شبه معدومة، لتحديد الدقة في زمن هذا الاكتشاف، بظهور العامل الجديد ألا وهو الأبوة المسؤولة عن الإنجاب، إلا أن تطور الطب السومري في الألف الثاني والثالث قبل الميلاد، يشير إلى بذور معرفية علمية إلى حدود متقدمة، منها إجراء عمليات جراحية خطيرة ومؤكدة في الدماغ الإنساني، كما أن أول دستور للأدوية وضعه السومريون منذ أكثر من أربعة آلاف سنة، والمشوق أكثر في هذا الموضوع ما تم اكتشافه لأول مدونة مسمارية طبية، في تاريخ الإنسانية وضعها طبيب سومري، لم يذكر فيها أي شيطان أو روح أو تعويذة سحر، وكان معروفاً لديهم بنصوص واضحة لا لبس فيها الأمراض المعدية، ونقل الحشرات للأمراض، والتشريح الإنساني، والعمليات الجراحية، و لابد أن هذه المرحلة وربما قبلها في سلم التطور المعرفي الإنساني تشير بوضوح إلى اكتشاف الإنسان القديم أن نطفة الأب تحوي كل الكائن العضوي.
• غشاء البكارة وذهنية التحريم ..
من المؤكد ومنذ اكتشاف الزراعة كانت الآلهة الأرض الأم على صورة الأنثى البشرية، وكان شريكها الذكر إله الخصب والمطر، يتخذ صورة الثور الإلهي. ولعل ارتباط العشيرة أو القبيلة في العصور الحجرية المتأخرة، أوضح ما يكون من خلال الطوطم، الذي كان يمثل غالباً على شكل ثور، يمنع قتله أو أكل لحمه، إلا في احتفالات دينية خاصة، يشارك فيها جميع أفراد القبيلة، لكي تسري روحه المقدسة في الجماعة لما في رموز الثور من إيحاء بالقوة والشهوة الذكرية، كما أنه الرمز المغاير للأنوثة، ومع الزمن أصبح يحرم فقط أكل قلب أو كبد ذلك الحيوان المقدس . هذه القيم وغيرها ساهمت بنشوء ذهنية التحريم والمحرمات، التي اكتسبت طابع القوانين والواجبات، واتخذت المحرمات وسيلة لتنظيم الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والروحية داخل القبيلة الواحدة بظهور الكهنة والعرافون والسحرة ورافقها ظهور التمائم المتنوعة(3) والتي عدت حماية للإنسان من عوارض المجهول كالموت والغوامض من الأمراض وعوامل الطبيعة المؤثرة في معاشه، وبين التمائم الكثيرة التي اكتشفت في بلاد الرافدين تم العثور على رموز قضيبية صغيرة ربما كانت الإشارة الأولى لمعرفة الإنسان القديم لقدرة الذكر على منح الإخصاب الإنجابي للأنثى، و لابد أنه سيساهم فيما بعد بتأسيس قيم جديدة للآلهة تظهر بعنف وقوة في ملاحم البطولة المذكرة، جنباً إلى جنب مع الملاحم الأنثوية، في أدبيات عصور التدوين والنثريات التي ترجمت من العصر السومري .
كانت العاصفة والرياح العاتية أشبه بالثور الهائج، الذي يثير الغبار من بعيد، إذا اشتم رائحة البقرات موسم الإخصاب ، ويرغب بسفادها، في مخيلة بعض المجتمعات الزراعية، التي كانت تدفع بالفتيات لكشف فروجهن في مواجهة الريح العاصفة، علها تهدأ إذا تسللت إلى أرحامهم، فترحمهن العاصفة وتهدأ إذا ارتوت من ملامسة الفروج تماماً مثلما كان الذكر الهائج يهدأ بعد أن يرتوي من متعته الحسية بقذف منيه في أرحامهن. (4)
يقول “مرسيا الياد” : ” إن الرمز ليكشف بعض أوجه الواقع الأشد عمقاً، والتي تشكل تحدياً لأنه وسائل أخرى للمعرفة وليست الصورة والرموز والأساطير ، بالإبداعات غير المسؤولة، التي تأتيها النفس إنها تستجيب إلى ضرورة وتؤدي وظيفة ، أعني أنها تميط اللثام عن أنماط الوجود الحافلة بأوفر الأسرار وبالتالي تتيح لنا دراستها لأن نعرف الإنسان على نحو أفضل ( الإنسان، كما هو بلا إضافة). “
لقد كان غشاء البكارة للفتاة محيراً للإنسان البدائي، ذكراً كان أو أنثى، وهو ما تم اكتشافه عبر العصور، كحالة نوعية تتفرد بها الأنثى دون سواها، مما أضاف شحنة جديدة في ذهنية الإنسان عن غوامض وأسرار الفرج الأنثوي، ويعتقد أنه كان بمثابة حماية صريحة للمرأة اليافعة، من عدوانية الرجل الذي يرى في الدم المنفلت من فرج الأنثى عند أول مضاجعة عنصراً من أكثر العناصر مدعاةً للتخوف، ( لا زال هذا التخوف مهيمناً لدى الكثير من المجتمعات المشرقية المعاصرة إلى اليوم ، بين الشباب والشابات المقدمين على الزواج).
ومن بين التماثيل المكتشفة للآلهة الأم في العصور الحجرية الحديثة، تظهر بعضها الجزء السفلي منها وكأنه رأس القضيب الذكري بحيث عدّ بعض الأثريين هذه التماثيل وكأنها كانت تستخدم للفض الشعائري لغشاء البكارة عند الفتيات، بتخوف الرجل من نفور الدم عند الإيلاج لأول مرة ولكن هذا التفسير غير مؤكد ولم يتم التثبت منه تماماً.
إلا أن المؤكد في بعض حضارات الممالك القديمة في سومر كانت تفتض بكارة الفتيات العذراوات في المعابد المقدسة للجنس، سواء كانوا مكرسين ككاهنات للمعبد أو فتيات مقبلات على الزواج، ولكن لم يكن ذلك قاعدة عامة يمكن الأخذ بها دائما، ففي بعض المجتمعات الزراعية التي عرفت قيمة العفة لإنجاب الأولاد في مجتمع مذكر، عرف قيمة منيه بيولوجياً في الإخصاب، اهتمام واسع ببكارة الفتاة لأنه يرغب في تكوين منظومة إقطاعية تتوارثها ذريته من بعده- نشوء الملكية- فكانت عذرية الفتاة سلعة تزيد في قيمتها بالنسبة لطرفي المعادلة الزوج الشاري والأب البائع(5).
والأرجح أن للبكارة أهمية أعظم عند أب الفتيات منها عند من يرغب بالاقتران بهم، وبتوضيح اكبر: إن قيمة السلعة التي تقدم للرجل الذي بدأ أصلا يتهم بعفاف زوجة المستقبل، على اعتبار أن عذرية الفتاة دليل على إخلاصها ووفائها في حياتها الزوجية القادمة- يمكن أن تزداد في قيمتها المادية بالمهر الذي وجب دفعه للأب، ونصت عليه الأعراف القديمة، إلى أن بات قانوناً نصياً في مدونات كثيرة في الشرق القديم، ويحاسب عليه الرجل بقسوة، إذا افتض بكارة فتاة دون تكريس شرعي ومهر، وجب دفعه وإلا كانت عقوبته القتل دونما رحمة، ليس لأنه أساء بفعلته إلى الأنثى باغتصابها، بل لأنه افسد سلعة بدأت تروج في المجتمعات المذكرة المتحضرة.
• اينانا…..عشتار في القص الأسطوري والشعري
من بين ما انتخبته من مقاطع نثرية أو شعرية، حاولت جاهداً إلقاء الضوء على بعض الصور الرمزية التي تفيض خيالاً آسرا في مرحلة هي جدّ مبكرة من طفولة الفكر الإنساني بعد مرحلة التدوين، والتي إذا افترضنا التحليل في كنه هذه النصوص، نجد في أكثرها نضوجاً أدبيا وصياغة لغوية متماسكة، شعراً وإيقاعا، إذ أن طفولة الأدب الإنساني تقارب عوالم طفولة الإنسان الذي لم تلوثه مفاهيم الالتزامات العقائدية الثقيلة، أو تأسره أعصبة الرقابة الذاتية أو الجمعية بأي شكل ووسيلة…لذلك نجده حراً مفعماً وجنسياً ومثيراً…احتوته هالة من القداسة الدينية العفوية التي تعبر عن مكنونات الإنسان الحسية والذهنية اصدق تعبير، لأنه جاء بدون محاذير وقيود وأعصبة.
ولا أقصد بطفوليته بأنه غير مدرك أو واع..فما أدراك أن الطفل ذاته بعالمه الفريد والخيالي لا يتفوق على أكثر حكماء العقل والمعرفة رسوخاً في التعبير، وأصالة في الرؤية، وهذا ما تقصدته بالمعنى…
“عندما رفع الأب (انكي) عينه على نهر الفرات…”
“وقف بخيلاء….كالثور الهائج…”
“رفع قضيبه…..وقذف المني….”
“فملأ دجلة بالماء الرقراق….”
“استسلم له دجلة…كما لثور هائج…”
“رفع قضيبه، ومعه هدية الزفاف…”
“جاء بالفرح إلى دجلة مثل ثور بري كبير عند الإخصاب…”
“الماء الذي جاء به…ماء رقراق….نبيذه حلو المذاق…”
ويتابع النص:”المني الذي يهب الحياة…البذرة التي تهب الحياة…””…(نينورتا)الذي نطق باسمه(أنليل)…”ويمضي الشاعر في روايته، وكأنها مسرحية، فيصف كيف تستحم (اينانا) بالماء، وتدلك جسدها بأنواع المطيبات والمنظفات، وترتدي طيلسان السلطة أو الألوهية لتحمل (تموز) أو (ديموزي) على الاستجابة لإغراءاتها…وقد ملأها مقدمه حباً وشهوة فأنشدت أغنية تغنت فيها بفرجها، الذي أشبهته بقارب السماء…وبالهلال الجديد , والأرض المراحة (السهلة) والرابية العالية…”..مَن، مِن أجل فرجي..””مِن.. أجل الرابية المقببة عالياً..””َمَن مِن أجل فرجي ، أنا العذراء..””من أجل فرجي الأرض الظمآنة للارتواء..””من سيحرثه لي….؟””من لي ..أنا ملكة السماء””من سيضع الثور في أرضي..”
وفي الجواب ترنم الكاهنات أمام الكاهنة الكبرى المنشدة بلسان الإلاهة مرددات”أيتها الملكة العظيمة” “يا إينانا .. الطاهرة” “الراعي سوف يحرث فرجك””الملك سوف يروي حقلك””ديموزي الملك سوف يحرثه لك”
وبعد أن تنظف حضنها ( فرجها) يتضاجعان .. و لا عجب بعد ذلك أن تشيع الخضرة في كل ما حولهما … كما يقول النص:
“احرث فرجي يا رجل قلبي..””فيطلع الأرز، وتخضر الأرض..””وتطلع الغلال .. وتزهر البساتين..”
و لا عجب تقول القصيدة .. ففي بيت الحياة ،بيت الملك، زوجته سكنت معه في فرح.. وأقول هنا كاتب هذه السطور : ولا عجب أليس في هذا اللقاء سر الوجود .. وجودي ووجودك.. لعل أشد الصور الشعرية شبقيةً .. وإلهاماً جنسياً عارماً موشى بهالة من القداسة في تلك الصورة التي كشف عنها بنص للترانيم التي كانت تتلى في المعابد، أو في احتفالات الربيع (6) تقول:”عذب ريقها.. مثل فرجها..””عذب ريقها.. مثل شفتيها..””مثل فرجها .. هو عذب ريقها..”.. إنها المرأة .. الأنثى ، الإلاهة .. (إينانا)..(عشتار)..
• الأدب والنص القانوني..
أدبيات المرأة في الوثائق
من خلال بعض الوثائق المكتشفة في ( لاغاش) وتعود إلى زمن الملك السومري ” أوروك جينا ” حوالي 2350 قبل الميلاد , بينت إحدى الوثائق التي يمكن وصفها ” بوثيقة إصلاح اجتماعي تصف شر الأيام السالفة ” .. أي الأيام التي سبقت مجيئه إلى الحكم ومنها الإجراءات التي اتخذها لمحاربة الشر: ” إن النساء في الأيام الماضية كن يتزوجن من رجلين، لكن المرأة اليوم إذا حاولت أن تفعل هذا فإنها ترجم بحجارة منقوش عليها نيتها الشريرة.. هذه..”
ويمكن أن نستخلص من هذه الوثيقة ( الإصلاحية) أن المرأة في الأيام الخوالي، كانت تمارس تعدد الأزواج، أي تنبئ بمجتمع أقل ما يقال فيه أنه بعيد عن هيمنة الرجل وسيادته.
ولكن هذا الملك أيضاً كان له إصلاح آخر يعد ثورياً بمقاييس تلك الأزمان، بأنه طبق قانون الأجر المتساوي في العمل بغض النظر عن طبيعة الجنس فقد ساوى بين العاملين والعاملات في خدمة المعبد أو الخدمات العامة الأخرى، وقد كان الأجر مقتصراً على الرجال دون النساء.
وكان لكل معبد في الممالك المدينية رئيساً للكهنة , فإذا كان المعبود إلهً ذكراً، وجب أن يكون رئيس الكهنة أنثى أما إذا كان الإله أنثوياً، فالعكس صحيح.
وتشير وثيقة أخرى، إلى أن الملك الأكادي الشهير ” صارغون”، أول مؤسس لإمبراطورية عظيمة مترامية الأطراف في الشرق القديم, عين ابنته ” انخدوانا ” رئيس كهنة إله القمر في مدينة ” أور” ولم تكن تمارس الطقوس الدينية وعلى رأسها الجنس المقدس فحسب ، بل كانت تقرض الشعر وتجيد النثر، وتركت ثلاث مؤلفات ” مدونات مسمارية” تضم شعراً وترانيم بحق الآلهة والعبادات المتعلقة بها.
إذاً فالمرأة كانت تتبوأ أعلى المناصب في الألف الثالثة قبل الميلاد بالرغم من بذور انحسار أهميتها السابقة ، إلا أن وضع المرأة تردى كثيراً في فترات لاحقة، وخلال الألف الثانية قبل الميلاد ليصبح الرجل هو السيد المطلق وكلمته هي النافذة .
كانت ” أوروك ” تعد من أهم المدن السومرية التي تحتضن كبرى معابد الإلاهة ” إينانا”، وهي المسؤولة عن حمايتها ورفع شأنها بين كل ممالك المدن السومرية، وإذ ينافسها الإله المذكر الكبير ” إنكي” في مدينته ” اريدو”.
ويتجلى الصراع بين المدينتين، في محاولة كل منهما انتزاع مركز الصدارة من الآخر ليبدو صراع جنسي ذكري أنثوي، ملغوم بمصالح اقتصادية ودينية بين سلطة الرجل الناهضة، وسلطة المرأة التي في طريقها إلى الأفول .. إلا أن ” إينانا” تصمم على انتزاع النواميس المقدسة منه ونقلها إلى مدينتها ” أوروك” غير آبهة بالتصدي لإله خطير في مقام “إنكي”.
ويتحدث النص الأسطورة عن قيام ” إينانا” برحلة ودية إلى (اريدو) مستخدمةً كل أساليب الجنس والإغراء والغواية لتحصل على مبتغاها بعد أن تترك الإله المذكر المتسم بالحكمة والوقار، ثملاً نشواناً قابعاً في فراشه الملكي.
إن تفسير النص بحرفيته ربما يفقد المعنى الأجل الذي ابتغاه خلف سطوره، ولكننا نفهم منه أن هناك تطوراً ما قد حدث في العلاقات الاجتماعية.
ويتضح ضعف الإلاهة أكثر عندما يغتصبها البستاني، وهي نائمة في بستان جميل تكشفت فيه مفاتنها الجسدية فلم يقوَ ” شوكا ليتودا” الفلاح عن اغتصابها وهي نائمة فتلجاً باكية شاكية إلى الإله المذكر عله ينصفها بعد أن تملكها اليأس والقنوط، وهي التي ما عرف الأسى والحزن يوماً طريقاً إلى عرشها، فهي المتسببة في بعث البهجة والفرح في قلوب متعبديها.
إلى أن تلجاً أخيراً إلى بني البشر من الأبطال في ملحمة ” جلجامش” وهذا في حد ذاته اكتشاف جديد لم تعهده الإلاهة المرأة في نفسها من قبل، حين كانت العلاقات الجنسية، عفوية ومقدسة، وتؤدي دورها الإنساني باستمرار الوجود، في مجتمع بسيط خالِ من عصابات التملك الفردي و الاغتصاب لتصبح عاهرة غوايةٍ وجنس مصلحي، ووسيلة تفريغٍ آنية مثارة بالرغبة وحدها ،في ذهنية المذكرين من الآلهة والكهنة والبشر..على حد سواء.
ففي مملكة ” أوغاريت” الفينيقية على الساحل السوري، كانت “عناة” مثيلة ً ” لعشتار” و” إينانا” و “بعل” الإله المذكر الذي كان منهمكاً بممارسة الجنس مع بقرة فتية، ويتحدث نص آخر عن ” بعل” على شكل ثور يضاجع بقرة على مرأى من الآلهة عناة التي تملكها شعور جارف لأن تكون هي البقرة التي يخصبها قضيب الثور “بعل” فيكون لها ذلك في ليلة واحدة، يضاجعها “بعل” آلاف المرات تخصب خلالها بثور فتي ، يقول النص: ” في توق شديد أمسك بفرجها، وفي توق شديد أمسكت بقضيبه(عليان بعل ) قام بفعل الحب آلاف المرات مع العذراء عناة..”
لقد مارست الجنس آلاف المرات وستبقى عذراء..لأن العذرية هنا تبقى صورة رمزية لإلوهيتها.
وتروي إحدى الوثائق الأثرية من الأدب الكنعاني عن شخصية الإلاهة بأنها امرأة فاعلة في المجتمع تكتشف خيانة زوجها ” إيل ” كبير الآلهة مع فتاة بعمر الزهور، وهي التي أنجبت كل الآلهة وولدت البشر، تقادم عليها الزمن وشاخت وفقدت جاذبية الصبا الفاتن، الذي كان لها يوماً ما ولم تعد ترضي زوجها التواق أبداً إلى الحب والجنس، متناسياً أنه هو نفسه أيضاً فقد عود الشباب الناضر، وقوة الثور الفتي، ليثبت للآخرين المتطلعين إلى عرشه بأنه سيد نفسه وبمقدوره غزو قلوب العذارى، غير أن الإلهة العجوز لا تستسلم وتقاوم لتحافظ على مكانتها كامرأة أنثى، تجتاحها الغيرة فترمي زوجها ” إيل ” الشيخ، بعد أن شعر بالبرودة الجنسية تجاهها بالوهن والعنة ، فتثير في نفسه كرامة الرجل المطعون بأغلى شيء يملكه الرجل ( ذكورته) فيقرر الانتقام منها بأن يطلب من ” بعل ” الإله الشاب مضاجعتها وإخضاعها ، لينجبا بذلك جيل جديد من الآلهة والبشر.
لا ريب في أن في سياق هذا القص، الكثير من المضامين الإنسانية الواقعية التي تجعلها خالدة، لأن هذا الموضوع ما زال مستمراً إلى اليوم، في صراعات المرأة النفسية لتملك الرجل لها وحدها دون منافس، وسعي الرجل الدؤوب والدائم للبحث عن طريدة نسائية فتية يجدد متعته معها، ويقضي وطره منها وهو ليس في حاجة إلى الكثير من الأعذار والمبررات لخروقاته الزوجية والمتسمة بالخيانة ، منذ الأزل ، ناهيك أن هذا القص، لا يروي أسطورة فحسب ، بقدر ما هو تشريح واقعي لحالة ٍ إنسانية يغدو الرمز فيها أقرب للحياة العامة من الخيال الأسطوري، وهذا يذكرني بسمات الأدب العظيم الذي قد يسبق الكشف العلمي في إدراكه لواقع الأشياء والحواس عبر الخيال والقص، ( دوستوفسكي في رواياته سبق فرويد في التحليل النفسي .. ولكن عبر الأدب والأمثلة أكثر من أن تحصى ) أو يوظف الأسطورة ليقول خبرته الحياتية ورؤيته في تحول الفكر الإنساني وهو ما تحاول هذه الأسطورة إنباؤنا عنه، بأسلوب جد هو ممتع.
كان لنشوء الملكية الخاصة والسلطة المنظمة، والصراعات الحربية بين الممالك على الأراضي ومناطق الثروة الزراعية، أبلغ الأثر في انحسار تأليه المرأة، لصالح الإله المذكر وانعكس ذلك على تفاصيل حياة المرأة العادية، إلا أن هذه السلطة لم تفقدها المرأة دفعةً واحدة بظهور الملكية وأجهزة الحكم بيد الرجل، لقد كان العامل الأهم في الحرب، التي نشأت بتصادم الجوار حول مصادر المياه والأراضي الزراعية أو الرعوية بتوسع كل مملكة أفقياً، للبحث عن موارد جديدة، وبرزت تبعاً لذلك أهمية الرجل في الحرب، بينما أضحت المرأة تشكل عبئاً ثقيلاً على المجتمع المديني المتحضر التي تغتصب فيها امرأة الفريق المهزوم وتسبى هي وأولادها.
وفي حين تتعرض الإلاهة الأنثى للكثير من الإهانات، في بعض الأدبيات النثرية والشعرية نجد على العكس منها لم يكتشف أي نص فيه أدنى تحد أو استخفاف بالآلهة الذكور من قبل البشر .
ونقرأ في حوارية ” جلجامش ” و “عشتار” .. التي تقول : “صعدت عشتار ومثلت في حضرة أبيها ( آنو) وفي حضرة أمها (انتم) وجرت دموعها قائلة: “
” يا أبي إن ( جلجامش) شتمني وعدد فحشائي وعاري ..”
” ففتح ( آنو) فاه وقال لعشتار الجليلة:”
” أنت التي تحرشتِ فجنيتي الثمرة”
” وعدد جلجامش فحشاؤك وعارك”
إن وقوف ” جلجامش ” في وجه إلاهة الحب والجنس، معدداً نقائصها أمر بلا شك له دلالاته على الواقع الإنساني، في الفكر الأسطوري، و لا بد أن هذا التردي في مستوى المرأة الاجتماعي والإنساني قد رافقه هبوطاً مماثلاً على مستوى الآلهة، فالآلهة الأنثى التي كانت تحتل مركز الصدارة في مجمع الآلهة داخل الكهنوت الديني، بدأت تنحدر تدريجياً نحو القاع، وتفقد مراتبها العليا في السلم الطبقي للآلهة، بفعل رجال الدين الذكور.
كما أن الأسباب الأنفة الذكر لم تكن هي منفردة، إذ أن اكتشاف الرجل لأهميته الذكرية في الإخصاب، ربما كان العامل الأكبر في الإيحاء لسيادته فيما بعد، وكانت أكثر الآلهات شراسةً وتصدياً للآلهة الذكور هما ” إينانا” و “عشتار” إذ لم تختفيا نهائياً من مجمع الآلهة كما حدث لكثير من نظيراتهن.. ولعل أجمل الصور الشعرية التي تفسر ذاتها عن عشتار في نص آشوري ..
يقول: ” منذ أن نزلت عشتار إلى أرض اللا عودة”
” لم َيَنز الثور على البقرة … ولم يلقح الحمار الإثان”
“وفي الحي لم يضاجع الرجل العذراء”
فالرجل يرقد في مخدعه ، والعذراء على جنبها”
إن هذه الصورة تؤكد الاحتفاظ بعنصر جنسي في أهميته للخصب والحياة في مخيلة إنسان العهود الملكية والتدوين، لابد أنه سيساهم في بقاء هذه الآلهة على قيد الوجود، لأنها تختصر بثدييها وفرجها سر الوجود ذاته، أي الخصب الذي يعيش الإنسان له وفي كنفه ولأجله.
• حمورابي والمرأة
وفي النصوص القانونية في شريعة “حمورابي”، يمكننا الاطلاع هنا على بعض نصوص القوانين التي تشرع فيها بصورة لا لبس فيها، انتقال السيادة الأنثوية ، إلى نظام السيادة الذكرية، الذي نشأ أولاً في الأسرة، وانعكس على الفكر الديني في مجمع الآلهة الذي أصبح بمعظمه مذكراً، وتطور ليدخل في صلب الحياة العامة في نصوص يعاقب الإخلال بها معاقبة قاسية.
منها على سبيل المثال أكثر من ستين مادة، خصصت لتنظيم العلاقات الزوجية، وقضية الإرث وغيرها من النصوص، التي استندت عليها فيما بعد الأديان السماوية في تشريعاتها، باعتبارها من الإله، تماماً كما فعل ” حمورابي” عندما سلمه ( إله الشمس) هذه القوانين يداً بيد، ( وكذلك موسى في الألواح العشر ) ومع أن الكثير من تشريعاته كان معمولاً بها في ” سومر”، نجد أيضاً نسخاً منقولاً لبعض النصوص الأقدم مع التعديل الملائم لتطورات العصر.
( اكتشفت نصوص حمورابي عام 1901 بحفريات عالم الآثار الفرنسي ” دوموغان” في “سوزا” عاصمة دولة “عيلام” الذين هاجموا ” بابل ” ونقلوا إليها النصب الذي نقش عليه شريعة حمورابي وهي محفوظة اليوم في متحف “اللوفر” بباريس) والتي تعد أساس التشريع الجزائي، إذ لا يحق للمتضرر أن يفرض عقوبته، بل اختصت بها محاكم ملكية أعدت خصيصاً لهذا الغرض:المادة 128: إذا تزوج إنسان من امرأة، ولم يكتب معها عقداً، فتلك لا تعد زوجته الشرعية ( كان القانون يسمح للرجل بالزواج من زوجة شرعية واحدة،ولكن يحق له اقتناء عدد غير محدود من المحظيات).
المادة 138-139-140 : للزوج الحق في تطليق زوجته في بعض الحالات، منها إذا لم تنجب له أولاداً،أو إذا أصيبت بمرض مزمن، مع احتفاظه بالزوجة المريضة إن رغبت.
المادة 148-149: إذا أهملت الزوجة شؤون بيتها له الحق أن يستبقيها كجارية، وأن يتزوج بأخرى، كما يحق للزوج طلاق زوجته، حتى لو كانت غير مذنبة إلا أنها تعوض بجزء من أملاكه وتكون حضانة الأولاد حق شرعي لها حتى سن البلوغ.
المادة 142: يحق للزوجة المطالبة بالطلاق من زوجها إذا أساء معاملتها.
المادة 129: إذا شوهدت زوجة إنسان تضاجع رجلاً آخر فيجب ربط الزاني والزانية ورميهما بالماء، إلا إذا عفا الزوج عنهما، فيعفي كذلك الملك عنهما.
المادة 130: إذا اغتصب إنسان زوجة إنسان آخر وهي مطلقة وتعيش في بيت والدها، وشوهد بين أحضانها فإنه يحكم بالموت، أما المرأة فتعتبر غير مذنبة.
المادة 131 : إذا اتهم الرجل زوجته بالزنا، ولكنها لم تضبط وهي تضاجع شخصاً آخر، فيحق لها أن تعود إلى بيت زوجها إن هي أقسمت بالإله على براءتها.
المادة 153: إذا قتلت الزوجة زوجها من أجل علاقتها برجل آخر تعدم على الخازوق.
المادة 154: إذا ضاجع رجل ابنته يطرد من بلده.
المادة 157: إذا ضاجع إنسان أمه بعد وفاة والده يحرق الاثنان معاً .
كل ذلك غيض من فيض، إذ أفردت مواداً متنوعة تختص بالتبني ومن بينها، لا يحق لكاهنات المعابد المقدسة الذين يمارسون الجنس المقدس بتربية أولادهم، بل يُعهد بتربيتهم إلى أبوين مستعدان لتبنيهم.
كما لم يوجد أي نص يعاقب الرجل لخيانته زوجته.. وحتى قبل تدوين تشريع حمورابي .. لم يكشف عن قوانين تجرم الرجل في “سومر”.
لم يكن تشريع ” حمورابي” أساس تاريخ المجتمع والقانون فحسب، بل كان أساس سلوك الإنسانية ( الأخلاقي) عبر الآلاف من السنين، فقد أدرك رجل الدولة المنظمة “حمورابي” بفذاذ حكمته ووفاقه مع القوى “الإلهية”، بواسطة ” الكهنوت السياسي و الديني” بمنح سلطته الدينوية الزمنية مداً فوق طبيعي، فنسب نفسه إلى ” مردوخ” الإله، راعي “بابل” وإلى “شمش” إله الشمس، بصفته الحامي للعدالة، و لم يخفى أن يقدم نفسه بصفته الوكيل أو الخادم أو الحارس لقوى السماء، ( المذكرة طبعاً) والتي ستأخذ الحيز الأكبر فيما بعد عبر ديانات أخرى قدر لها أن تعيش طويلاً في الذاكرة والممارسة الإنسانية، بكبتها كل رغبة جنسية (غير سوية) أو تنظيمها حسب القواعد والأعراف السائدة أو المقبولة آنذاك،وهذه الوصايا و المحظورات والأوامر قد سُنت وفق تعاليم الآلهة، وان الأحكام صدرت باسمهم على الإشهار بالقوانين الأخلاقية، التي ألزمت الحياة الجنسية بحدود معينة، على اعتبار أنها خلاصة وحي إلهي، وبالتالي فإنها تشكل فحوى الإيمان الديني، و لها السيطرة المطلقة على المفاهيم الأخلاقية.
• النحت
تبرز الموضوعات النحتية بدءاً من التماثيل الصغيرة، والتي نقشت على الأختام الاسطوانية وانتهاء بالتماثيل الضخمة والرسومات النحتية البارزة(الرولييف)، ليكون قاسمها المشترك الأعظم، صورة المرأة الأنثى…الالاهة “اينانا” و”عشتار” حتى على المصوغات والحلي الذهبية.
إن مقاربة النصوص الأدبية الانفة الذكر، مع التصوير النحتي، ووفرة هذه المنحوتات بمواد مختلفة (عاج، فضة، خشب، الباستر،معدن) أو من صناعة نحتية مدخل فيها أكثر من مادة ( رخام، صدف، عاج، لازورد) يؤكد على مدى اهتمام الفنان الرافدي القديم، بقداسة هذا الرمز الأنثوي، والذي استمر آلاف السنين منذ العصور الحجرية الحديثة، بل ويعتقد قبل ذلك( وهذا ما كان موضوع القسم الأول في النص الأسبق)، وقد مثل النحات الرافدي القديم، ان كان في تخوم الممالك المقاربة لبلاد ما بين النهرين شرقا، حيث ممالك “عيلام” و”سوزا” وغيرها، وان كان غربا في “ماري” و”ايبلا” و”اوغاريت” على تخوم البحر الأبيض المتوسط وحتى جزر قبرص وكريت، أو جنوبا حتى الصحراء العربية، وشمالا حتى هضبة الأناضول: كانت المرأة دائما ربة للينبوع، أو محارة للؤلؤ، أو حقلا خصيبا، أو ثديا لبونا، أو رحما ولودا، أو فرجا لذيذا.
كل هذه الأقانيم، حاول النحات جاهداً أن يبرزها في جسد عشتار الجميلة، بل ويزينها ويلونها ويدخل عليها الذهب واللازورد والأحجار الكريمة، ولو أن بعضها مثل الممارسة الجنسية في وثائق نحتية كثيرة يشترك فيها ذكر وأنثى في مضاجعات بوضعيات متنوعة، يؤكد فيها النحات على العضو الذكري وهو يلج في فرج المرأة، أو يصورهما كعروس وعروسة في سرير اللذة الإلهي، أو يمثل بعضها كاهنات معابد الجنس المقدس، وهما في مضاجعات صريحة التفاصيل والإيحاء، تبدو فيها الأنثى الكاهنة وهي متزينة بأبهى حلة بممارستها دور عشتار، والمتأمل لهذه الأعمال الفنية الجريئة الفعل والمضمون والتي تخفى عن أعين المشاهد في متاحفنا العربية، لأسباب لم استطع أن احدد كنهها بدقة،( فهي بحاجة إلى دراسة في شخصية وتكوين الإنسان العربي).
ففي “سومر” كانت التربية الجنسية مكشوفة للطفل، مذكراً كان أو أنثى، في نشأته المبكرة، دون شعور بالخجل أو الحياء، فقد كان المربون المعلمون يلقنون الأطفال مبادئ القراءة والكتابة في السنوات الأولى من عمر الطفل، ولكي يميز بين العناصر المذكرة والمؤنثة في الأسماء والأفعال كان عليه (وفقا لطريقة الكتابة المسمارية) أن ينقش قضيب الرجل أو فرج المرأة. كما أن الطفل البابلي مثلاً كان يدرك تماماً معنى إنجاب الأطفال، فالمجسمات الطينية المكتشفة والتي تمثل الممارسة الجنسية الصريحة، أكثر من أن تحصى، ليس داخل المعابد فحسب بل وفي البيوت، وهذا لا يعني أن الحرية الجنسية كانت مطلقة دون قيود أو حدود، فقد حرصت القوانين والتشريعات على صيانة نساء الآخرين من الاعتداء، من تعديات الأغراب والشاذين والأفاقين، وسمحت بالممارسة الجنسية المقدسة ضمن المعابد حصراً، ومع كاهنات المعبد اللواتي اعددن لهذه الغاية.
وكانت غالبية التماثيل المكتشفة “لعشتار” الالاهة في الشرق القديم، ومنها بكثرة ملحوظة جاءت بصناعتها من الفخار المشوي، المصنوع بواسطة القالب لتكون بمثابة شمعة نذريه توضع في المعابد باسم المتقدمين بها، لغاية يرجونها من هذه الالاهة المخصبة للأرحام، الحامية للمرأة، والمثيرة للشهوة، وراعية أرزاق الأرض الخيرة، وأحيانا حامية للأوطان والهة الحرب، وهي متمنطقة بعتادها العسكري، وذلك في الأعمال النحتية التي تبدو ظاهريا متأخرة نسبيا في الألف الأول قبل الميلاد.
وهنا سأتوقف عند بعض التماثيل التي تحمل دلالات معينة، والسؤال الأولي الذي قد يطرأ في المخيلة، كيف تعرف في غمرة المئات من التماثيل المكتشفة إلى الآن، أن هذه هي الالاهة “اينانا” وليس نموذج لامرأة أخرى، ملكة أو زوجة أو كاهنة….؟
والجواب سريعا ما يأتي:
كان النحات القديم عندما يتقصد أن ينحت “عشتار” تحديداً، كان يوسمها بقرنين واضحين ولا لبس فيهما، وهما من دلائل الربوبية أو الإلوهية، وهذا لا يعني، إن المرأة كإنسانة في مخيلة النحات لم تصور بأشكال متعددة، بل على العكس، كانت المرأة العاملة أو الزوجة أو الحبيبة مثار اهتمام كبير للنحات الرافدي، ولكنها كانت غالبا في شكل محتشم اعتيادي وليس فيها من رموز جنسية واضحة، إلا ما ندر، وخصوصا كاهنات معابد الجنس المقدس، فقد أكد النحات على حجابهما تماما، بما في ذلك غطاء للرأس والجسد، لايبرز منهما سوى اليدين والقدمين..والوجه!
ولكن لا يمكن اعتبار ذلك قاعدة عامة لصور الكاهنات، أما عندما يختص الموضوع بعشتار أو آلهة الحب والجنس والخصب، أو من تمثل دورها بتسمياتها المتعددة والمختلفة، حسب الأزمان، وأماكن الاكتشاف، فان الرموز الجنسية أوضح ما تكون بإحاطة اليدين حول الثديين، وكأنها تعتصرهما،
( تعتصر المرأة ثدييها في حالتين لاثالث لهما: إما في حالة الإرضاع، وإما في حالة النشوة الجنسية القصوى).
أما بروز منطقة العانة، فتبدو كمثلث منقط أو محزوز أو حليق، ليحدد مساحة المنطقة الشعرية، ويحزها من الأسفل شق الفرج والذي مُثل بصور وأشكال مختلفة، وزين في أحايين أخرى أو لون، ومن مكتشفات مملكة “ماري” في تل الحريري على الفرات الأوسط قوالب لصنع المعجنات على شكل “عشتار”، وهي تحتضن ثدييها ويبرز الوركين والردفين ممتلئين والبطن كذلك.
ومن الأمثلة المثيرة لعشتار ما اكتشفه البارون “أوبنهايم” عام 1899 من تماثيل ضخمة في تل حلف بالشمال السوري في مملكة “غوزان” والتي تعود بمنحوتاتها إلى الألف الأول قبل الميلاد وهي تمثل أعمدة على شكل آلهة تحمل ساكف المدخل للقصر الملكي، ويبلغ ارتفاعها قرابة الستة أمتار، منها الهين مذكرين هما “حدد” يقف احدهما على ثور والثاني على أسد، اما عشتار فتنتصب على أسد، وخلال أكثر من عشرة آلاف عام كانت المرأة الالاهة تمثل في مواضيع نحتية مختلفة، واقفة غالبا على ثور أو كبش أو خنزير، وهي في قرارة النفس البشرية العامل الموضوعي المساهم في عملية الإخصاب، ويدل هذا الرمز، والذي ابتدأ بالثور كما تمثله إنسان العصور الحجرية، الطوطم الذي يمنح الأنثى الخصب الولادي، واستمر فيما بعد برموز حيوانية مذكرة، متنوعة ومختلفة، ولكنها تتفق جميعا بأنها قوية وشهوانية، وربما كانت هذه الرموز فيما بعد القراءة البدئية الأولى لمساهمة الكائنات العضوية المغايرة للأنوثة، والتي يقذفها الرجل بمنيه وتكون سببا بتلقيح المرأة بالإخصاب الإنساني.
هوامش
(*) كان يمكن أن يكون التوراة وغيره من المدونات المقدسة للديانة اليهودية، وعلى رأسها ” نشيد الإنشاد” موضوعاً شيقاً للشبقية الجنسية في إيحاءات لا سبيل للمماراة في شأنها، بالرغم من كل حيل الإخفاء والتمويه وعمليات الطمس الذي لجأ إليه مؤلفو التوراة أو الكهنة اليهود في عصور لاحقة، الأمر الذي دعا “صموئيل نوح كريمر” لأن يتساءل: “كيف اتفق للأحبار الأتقياء المتزمتين المدققين أن يضمنوه في أسفارهم المقدسة ..؟ إنما هو إلا سجل لإغانٍ حب جنسي دنيوي دون مستند ديني قدسي..”
جاءت الإجابة مدوية هذه المرة من رحم الأرض، التي احتضنت الرقم المسمارية لالآف السنين والمكتشفة خلال المئة عام الماضية، لتكشف عن الاختلاس المعرفي والنهب الذي مارسته أقلام كتبة التوراة لصنع قيمة فكرية ملزمة دينياً من تراث وثقافة الحضارتين الرافدية والمصرية، ولإعداد صك ملكية للمنطقة التاريخية، منزل باسم الرب شخصياً………..! .
ناهيك أن البعض ما زال يؤمن أن أمنا حواء وأبينا أدم كما ورد في سفر التكوين ، خلقا فجأة، برغبة إلهية في الجنة ، وعوقب الاثنان لأنهما أكلا من تفاحة الشجرة المحرمة ومارسا الحب بهمة ونشاط لم يعهداها سابقاً ، بينما ترك الشيطان إبليس يسرح ويمرح بالآثام في أفئدة المؤمنين…؟ !
أقول.. بالرغم من أهمية هذا الموضوع وتعقيداته، إلا أنني فضلت أن أضرب صفحاً عما جاء في الكتاب المقدس للاعتبارات السابقة ، ويمكنني أن أشير أن الباحث ” شفيق مقار” في كتابه ” الجنس في التوراة” قد تناول هذا الموضوع بصورة غاية في الإمتاع والجدية، وهو من أهم ما قرأته في ذات القص.
(1) : قد لا يتقبل البعض هذه الممارسات من الناحية الأخلاقية، بحكم التنشئة الثقافية والدينية لكل فرد .. وكباحث ، ليس من مهامي أن أصدر حكماً أخلاقياً في هذه الصور أو الممارسات الجنسية الجماعية، فأنا أكتب عما اكتشف وعرف ، وليس عما يجب أن يكون برؤية وثقافة واعظ ديني أو أخلاقي .. ولهذا أجد القلم يشدني لأن أتوقف عند ما ذكره الروائي البريطاني ( هارولد لاسكي) في ثلاثينيات القرن الماضي، في كتابه ” العالم سنة 2000″ وعما توقعه بما سينعم العالم من أمن وسلام ومحبة ووئام ، وكيف أن الناس سيفترشون الأرض ويتمددون على الأعشاب والرمال وينعمون على هذه الشاكلة تحت الشمس بالحب والدفء فيتضاجعون كما يحلو لهم ومتى أن لهم الأوان ، فلا يؤاخذ إنسان بجريرة إنسان، إذ لا مكبوت يبقى عندهم ولا حاسد ولا عزول ولا مريض بهوس جنسي أو مصروع أو مخبول، فالحب والغزل والعناق كله مباح ، سواء أكان ذلك في الحدائق أو على الشطآن .
(2) اكتشفت هذه الوثيقة الطينية في حفريات مدينة ” نُفر” التي قامت بها بعثة أمريكية أوائل القرن الماضي، حيث قام البروفسور ” ليون لوغران” من جامعة ” فيلادلفيا ” بإعداد مقال بعنوان ” صيدلية نُفر القديمة” نشرت عام 1940 في مجلة ” المتحف” إلى أن ترجمها كاملة ” صموئيل نوح كريمر” بين عامي 1953- 1954 ، وكانت النتائج عند دراستها مذهلة للعالم أجمع من حيث التقدم الطبي الذي حققه الطب السومري منذ نهايات الألف الثالثة قبل الميلاد
(3) من بين التمائم الكثيرة التي اكتشفت أواخر العصور الحجرية الحديثة ما تم الكشف عنه بالمئات في معبد العيون في ” تل براك ” لشكل غريب من التمائم يمثل بطناً وعيوناً واسعة جداً حيرت الأثريين عن معنى الرمز المراد بها إلى أن اكتشف أحدهما وهو يمثل بطناً وكأن بداخله جنيناً صغيراً في بطن هذه التعويذة أو التميمة التي عدت حماية من العين الحاسدة،عند حمل المرأة.
(4) من نافل القول أن الارتواء الجنسي يمنح الإحساس بالسعادة الغامرة التي يشعر بها الشريكين، بعد الممارسة تحديداً، أي بعد توصلهما إلى النشوة الأخيرة، إذ تتملكهما نشوة أخرى مختلفة تمنح الإنسان طاقة حسية لطيفة تتمدد في كل خلايا جسديهما وتتأكد هذه المشاعر بالاسترخاء الجسدي والذهني.
(5) مع يقيني التام بأهمية هذا الموضوع الإشكالي لدى كافة شرائح المجتمع، إذ يشكل بتعقيداته إلى اليوم عصاباً جديداً يضاف إلى الأعصبة النفسية السابقة خصوصاً لمن يريد الزواج ببكر لم يطأها أحد غيره.
(6) يعتقد عدداً من الباحثين في علم (الميثولوجيا) أن كثير من الأشعار والعادات المتداولة شفهياً لم يقدر لها أن تكتب ، بل أن القسم الأعظم منها لم يدون وبقيت ترنم في المعابد والاحتفالات الدينية إلى أن طواها النسيان، أو دفنت مع ما دفن من لغات العالم القديم إلا أن جذور بعض هذه الترانيم تنبئ عن النزر اليسير منها الذي بقي حياً، ويعرفه المزارعون في أريافنا المحلية، منها على سيبل المثال عادة رش العرسان بالأرز في احتفالات الزفاف، وجلوسهما على دكة أو عرش كملك و ملكة وغيره الكثيرمن الطقوس وما يرافقهما في أهازيج وأشعار.
(7) يمكنني أن أؤكد أن الخيال الجنسي لدى الإنسان لا حدود له، ومهما حاول الإنسان تنظيم واقعه الجنسي عبر منظومة إنسانية أو دينية أو أخلاقية، تفلت منه أكثر الخيالات خيلاء وهوساً وشبقية، أكان في أحلام يقظته أو نومه، وعند الحالة الأخيرة يؤثر اللاشعور كما هو معروف على كل ما عداه من رقابات، وكلما كانت منظومة الكبوتات الجنسية والمحظورات اشد وطأة على الشعور كلما كان الانفلات عنها اكبر. وفي علم الفيزياء مقولة معروفة “الضغط يولد الانفجار”.
(8) لدي طفلان أكبرهم يبلغ العاشرة من العمر اليوم، سألني وكان وقتها في الخامسة…كيف أتيت إلى الحياة ومن أين..؟ فسردت له الحقيقة كاملة، وكيف أنني أعطيت والدته التي أحبها كثيرا بذرة عضوية مني ومن روحي، أثمرت في رحمها جنيناً كبر وأصبح أنت وكذلك شقيقك الأصغر، وحتى لا يكون الموضوع خيالاً محضاً في عالم الطفل، اقتنيت مصوراً تشريحياً لجسم الرجل والمرأة وشرحت له كيف يتم الإخصاب الإنساني والنباتي والحيواني عبر الصور الموضحة، وشاهد بأم عينه كيف يخرج الطفل من رحم المرأة…بالرغم من احتجاج والدته الشديد.
المصادر والمراجع:
1. معرض المرأة من خلال المكتشفات الأثرية السورية : وزارة الثقافة-، المديرية العامة للآثار والمتاحف2003.
2. 1الحوليات الأثرية العربية السورية : المجلد الثالث والأربعون 1999.
3. نشوء الحضارات القديمة: بورهارد برينتس، الأبجدية للنشر دمشق 1989.
4. الجنس في العالم القديم: تأليف بول فريشاور-ترجمة فائق دحدوح- دار نينوى-دمشق 1999.
5. صور ورموز: مرسيا الياد –ترجمة حسيب كاسوحة –وزارة الثقافة دمشق 1998.
6. الجنس في التوراة: شفيق مقار- دار يعرب – دمشق 1998.
7. المرأة والألوهية: دراسة في حضارات الشرق القديم – وحيد خياطة – دار الحوار –اللاذقية 1984.
8. المرأة عبر التاريخ: د. عبد اللطيف ياسين قصاب – اتحاد الكتاب العرب: دمشق 2002.
9. رمز الطقس والأسطورة: مرسيا الياد – ترجمة نهاد خياطة – إصدار العربي للطباعة – دمشق 1987.
10. المرأة بحث في سيكولوجية الأعماق: بيير داكو – ترجمة وجيه اسعد – وزارة الثقافة 1983.
11. لغز عشتار : فراس السواح – دار الكندي 1988.
12. الآثار السورية: مجموعات أبحاث أثرية تاريخية – ارض بعل دار (فورفرتس) فيينا. 1985.
13. فن الشرق الأدنى القديم : سيتن لويد – ترجمة محمد درويش – دار المأمون، بغداد 1988.
14. التاريخ القديم وما قبله د. نعيم فرح – جامعة دمشق 1991.
15. الفن العموري: عدنان الجندي – المجلس الأعلى لرعاية الفنون والاداب – دمشق 1962.
16. ديانة بابل وآشور: س. هـ هوك – ترجمة نهاد خياطة – العربي – للطباعة دمشق 1987.
17. مسيرة الطب في الحضارات القديمة – د. جوزيف كلاس – دار طلاس – دمشق 1995.