كاتب بريطاني يزور دمشق بعد نصف قرن: من يسيطر على هذا البلد جهاز مخيف .....
مر نصف قرن على نشر الكاتب البريطاني كولين ثوبرون كتابا وصف فيه مدينة دمشق وقصص رحلاته في شتى أرجاء العاصمة السورية مستعرضا تاريخها وعادات أهلها.
لكنه قرر زيارة المدينة من جديد ليقف على ما شهدته من تغيرات عصفت بها منذ ذلك الوقت…..
بدت لي المدينة أكبر بكثير مما أتذكره في ذلك الوقت، ولابد أن عدد السكان تضاعف أربع مرات. رأيت في زيارتي الماضية الأحياء تحيط بالمدينة القديمة في مشهد أحببته، فضلا عن وجود مطاعم ومتاجر وفنادق داخل أسوار المدينة، أصبحت جميعها الآن مغلقة أو خاوية.
إنها مدينة حرب. رأيت من مسافة ليست ببعيدة الفندق الذي استضافني في الماضي خاليا ومحترقا، إذ تقف كتل الاسمنت المسلح حواجز في الشوارع وسط الأسلاك الشائكة الممتدة.
تحظى المدينة بمكانة خاصة ملؤها الانفتاح والتسامح لدى العالم الإسلامي، وينتمي ربع سكانها إلى المسيحية والأقليات الأخرى، بما في ذلك الطائفة العلوية التي تنتمي إليها الحكومة والجيش.
ومازال الدمشقيون يتشبثون “على مضض” بنظام الرئيس بشار الأسد، نظرا لأن البديل الإسلامي، القابع خارج أسوار المدينة، قد يمثل تهديدا لهم.
عندما زرت المدينة قبل خمسين عاما كنت بمفردي، لأن السائحين لم يعتادوا في ذلك الوقت زيارتها. وعدت زائرا لها الآن بمفردي أيضا لأنهم فروا من المكان.
لا تزال المدينة القديمة سالمة على نحو يثير العجب، فقد نجت من مصير الدمار الذي لحق بمدينة حلب.
تفتح مدفعية القوات الحكومية نيرانها مساء كل ليلة مستهدفة ضواحي “العدو” على نحو أشبه بالبرق. وقفت في الظلام خارج فندقي أسمع متساءلا: “إلى متى سيستمر ذلك؟”.
كنت أتجول نهارا في الحارات وبين الآثار التي بهرتني في مرحلة شبابي. أجد نفسي أنظر أحيانا بعين ذلك الشاب متذكرا دخولي المسجد القديم أو زيارتي لضريح السلطان صلاح الدين.
أصبحت مسنا، ونادرا ما يستوقفني الحراس لتفتيشي، في حين ينظر إلى أصحاب المتاجر الكبيرة، التي مازالت تصخب بالزائرين، نظرة أمل، كما لو كنت بارقة لعودة السائحين.
يخيم هدوء غريب على حارات المدينة القديمة. أعتقد أنها كانت دوما كذلك. لكنني لاحظت وجود المزيد من النوافذ الآن وأقفال كثيرة على الأبواب.
تمتد خلف هذه الأبواب، بعيدا عن أعين الناس، باحات رخامية ونافورات وأشجار ليمون. وعثرت على منزل طالب كنت أعرفه في ذلك، ونظرت عبر نوافذ المنزل المهجور، ولم أعثر في الفناء إلا على أكوام مكدسة من ركام الأبنية
تأكدت أن أحدا لا يتتبعني ، وكان الناس يتحدثون إليّ بحذر شديد لم أعتده من قبل. كنت في الماضي نادرا ما أسير في الشارع دون أن يدعوني أحدهم، مسيحيا كان أو مسلما، إلى شرب فنجان قهوة أو كوب شاي. لكنها أصوات من الماضي ولت.
يقول الناس لي :”لا نرى نهاية لذلك. أصبحنا مثل بغداد أو كابول أو طرابلس (الليبية). إن هذه الحرب لن تنتهي على الإطلاق. والأسعار ترتفع طول الوقت”.
أصبح الناس يتحدثون عن التفجيرات الانتحارية وعن الأطفال الذين يسقطون قتلى وعن خراب المنازل. لكني أعتقد أن أكثر الأشياء المؤلمة التي رصدتها كانت الحالة النفسية لدى الناس، إنهم فاقدون للأمل، على الرغم من أن المكان لا يزال يفصح عن حلاوة العادات القديمة وكرم الضيافة.
إذا طال وقت الانتظار عند باب أو استفسرت عن أسرة غائبة، ربما سألني أحدهم وقال لي :”سوريا مجرد لعبة في يد القوى الأجنبية”، هذا ما دأب الناس على قوله، وأضافوا :”تفضل بعض القهوة، أنت ضيفنا… لكن سوريا تنزف”.
رحل بعض أصدقائي على الأرجح، لكن الأبنية التي أحببتها مازالت موجودة. الدمار الوحيد الذي وجدته كان في ضريح السلطان (صلاح الدين) قائد الحروب الصليبية، إذ أصابت قذيفة هاون قبته.
ذهبت إلى المسجد الأموي، أعظم آثار المدينة، الذي بني في القرن الثامن الميلادي وهو يعد واحدا من أعظم المساجد الإسلامية، بناه المسلمون على أطلال معبد جوبتر الروماني. وقد لحق الدمار بمسجد مماثل له في حلب قبل أشهر.
لم يلحق الضرر بالساحات الشاسعة حسبما رأيت، فضلا عن ضريح أثري مذهّب يقال إنه يضم رأس يوحنا المعمدان، وهو ضريح يوقره المسلمون والمسيحون على حد سواء.
يقول سفر إشعياء، أحد أسفار العهد القديم، إن “دمشق هي رأس سوريا”، وهي لا تزال كذلك ولكن سوريا الآن مختلفة، فدمشق مدينة يعمها التوتر، تنتشر عند أبوابها ملصقات صور الشهداء من الجنود، كما تعلق متاجر صورا شخصية للرئيس بشار الأسد، الذي تدعمه إيران لأنه من العلويين.
أنا أيضا أراهم .. هم عراقيون وإيرانيون يصلون عند مقابر آل البيت، يتشبثون بقضبان ضريح يفصلهم عن مكان دفن رأس الإمام الحسين، عبر طريق مؤدية إلى جبانة الباب الصغير خارج أسوار المدينة. كما زرت المكان الذي شهد مقتل ما يربو على 40 زائرا للأضرحة بعد أن استهدفتهم قنابل، وأصبحت المقابر تحرسها مجموعة من الجنود المسلحين.
ذهبت لزيارة ضريح بلال، مؤذن الرسول، المدفون في مقبرة ذات قبة خضراء. ودفعني صوت أذان الظهر من فوق مآذن المساجد إلى الوراء سنوات عديدة. لكني سمعت نداء “الله أكبر” يتردد على نحو مختلف بين شواهد القبور، وتمنيت أن يطيب لي سماع الصوت مثلما طاب لي في الماضي.
التقطت صورا عشوائية للمدينة من ضاحية مرتفعة ووقف ورائي اثنان في ملابس مدنية، اصطحباني إلى غرفة وسط منازل فقيرة. وهناك زاد عددهم إلى خمسة أشخاص. كانوا يتحدثون بلغة إنجليزية، واكتشفت أن دليل السائح للغة العربية الذي كان بحوزتي قد ضاع. وقالوا لي أنت ضيفنا لا تخف شيئا. ماذا تفعل هنا؟ وكيف جئت؟
أجبتهم بأنني حصلت على تأشيرة عن طريق وزارة الإعلام لديهم، فطلبوا مني الكشف عن جواز سفري وآلة التصوير.
– سألوني “من هذه؟”
– أجبتهم “إنها زوجتي.”
– “ماذا تفعل في الطائرة؟ ولماذا تضع ذلك فوق أذنيها؟
– “إنها سماعات أذن. كانت ذاهبة إلى جزيرة لاندي”.
– “هل تستمع إلى (إذاعة) إم تي إن أو سوريا تل؟”
– “لا. جزيرة لاندي لا تستقبل إذاعة سوريا تل. إنها تنصت إلى الطيار”.
ونظروا بعناية شديدة، وزاد ارتيابهم. واستعرضوا صورا لقطيع ماشية في هايلاند، وصورة لحيوان فقمة ينظر إلى الكاميرا من داخل مياه البحر.
-سألوني :”ما هذا؟”
-أجبتهم :”إنها حيوانات الفقمة”.
-“لماذ تنظر هكذا؟”
ليس الجيش هو من يسيطر على هذا البلد، بل إنه جهاز آخر مخيف كما أعتقد .. المخابرات.
كان جواز السفر يحمل ختم دخول الحدود السورية مع لبنان. واستعرضوا الصور المحفوظة على الكاميرا بعناية شديدة. وكنت قد التقطت صورا لحارات في دمشق وصورا لبوابات المدينة والشهداء والشعارات.
زاد ارتيابهم مع استعراض صور أخرى التقطتها خلال عطلة في جزيرة لاندي في قناة بريستول. كانت الصور تحتوي على لقطة لإمرأة جميلة تضع سماعات رأس داخل مقصورة طائرة مروحية.
لكنهم استدعوا ضابطا ماكر الملامح يبدو أنه كبيرهم. ثم اصطحبوني إلى مجمع شديد الحراسة في وسط المدينة، صعدنا درجا صغيرا يؤدي إلى ممرات رديئة ثم إلى مكان ضعيف الإضاءة نتن الرائحة لا أعرف ما هو.
وضعوني في زنزانة، لكنهم تركوا الباب الحديدي مفتوحا، وكان المكان يحتوي على ملفات كثيرة، ويضم ثلاث صور مختلفة لبشار الأسد معلقة على الجدران.
بدأت أشعر بخوف، وزادت حدة الاستجواب. كان معي رقم هاتف مسؤول يعمل في وزارة الإعلام السورية كان قد منحني التأشيرة، لكن أحدا لم يتصل به. وكان أحد البلطجية يتحرك ذهابا وإيابا في ملابس سوداء، في حين كان محققون مختلفون يأتون ويذهبون.
وأخيرا اصطحبوني إلى غرفة كبيرة يجلس فيها ضابط يرتدي ملابس رسمية أمام مكتب وظهره مواجه للضوء.
لم يعد ثمة حديث بشأن جزيرة لاندي أو حيوانات الفقمة. قلت له :”لقد عدت لزيارة مدينة أحببتها في الماضي”، كما لو كنت أؤكد على حزني من المقارنة بين الماضي والحاضر.
وقال لي :”أعتقد أن هذه صور لعطلتك”، ظننت أن الأمر انتهى ولكن استغرق الوضع ساعة قبل أن سيمح لي بالانصراف، فاصطحبوني إلى وزارة الإعلام، ورأيت مسؤولة لطيفة تجلس خلف مكتب كبير، وقالت إن الأمر مجرد “سوء تفاهم”.