عهد التميمي: جعلوها سندريلا ! ...
لـ: أحمد عمر
يقول فريد شوقي في فيلمه الشهير متغيظاً: “جعلوني مجرماً”، لكن عهداً، دون أن يرقى فهمها وعقلها وسنّها لقول: جعلوني قديسة، لأنها صغيرة، وليس ألذّ من المجد والشهرة، ولا نتهم صدقها، ولا يخلو سلوكها من بطولة، لكنها بطولة شائعة في الأرض المحتلة، وقد تكون البطولة هذه مشوبة بحب الظهور، ورضى الفريقين، وقد رضيت بدور البطلة الأولى في فلسطين. الشهيدات والسجينات الأخريات، وبينهن أمهات وكاتبات مثل لمى خاطر ومتفوقات في عمر عهد مثل نورهان عواد؛ كومبارس. لعل السبب هو أنهن محجبات يرتدين زي مريم العذراء، الكاميرا كانت غالباً مجانبة للعدل، حسب المصور الذي يحملها، أو التلفزيون الذي يوظفه، الكاميرات تحب الوجه الحسن. ترضى الكاميرا في الأفلام بالذكَر من غير وسامة، لكن البطلة يجب أن تكون حلوة، حسناء، وعهد شقراء وتشبه الخواجات. صورة المسيح الرائجة -وهو فلسطيني- أشقر.
السوريون أكثر اهتماماً بمفاعيل سجنها ومآلاته، ويقارنون بين دولة الأسد ودولة إسرائيل. المقارنة واحدة من أهم طرق المعرفة، فهم يستحضرون آلاف النساء اللاتي يتضورون توقاً إلى كلمة ثناء أو مواساة، بل هنّ منبوذات وحيدات، جائعات، من غير أهل ولا أنيس، وقد تعرضن للاغتصاب والاعتقال الوحشي وفقدن أولادهن شهداء في سجون الأسد الرهيبة، من غير رفات أو شاهدة، أو عزاء.
شاهدت منذ أيام، فيلماً إخبارياً قصيراً عجيباً لشاب فلسطيني وسيم، أصيب في مسيرات العودة، في غزة، كانت قدمه قد بترت، وكان مستلقياً على السرير، بعد إصابته برصاصة من نوع الفراشة، كان يضحك ويبتسم، ويلقي النكات للزائرين، وسئل عما سيفعل بعد شفائه، فقال: سأعود إلى المظاهرات. وروى أعجب ما رأى في المظاهرات، قال: رأيت شابة فلسطينية متشحة بالسواد، تتقدم باتجاه الدشم، عزلاء، واثقة، قال: أقسم بالله أن كل حرس الحدود المدججين بالسلاح المتطور والرشاشات الثقيلة وقفوا مذعورين، ثم تبادلوا نظرات الخوف وهربوا!
لكن الجنديين اللذين كان سبباً في اعتقال عهد التميمي، تقصدا أن يذهبا إلى دارها، إلى اللوكيشن، تتبعهما الكاميرا، وعهد مثلها مثل غيرها من أبناء الشعب، شتمت أحدهما ودفعته من دارها، بعد أن أطمأن الجندي إلى أن الكاميرا صورت المشهد، مضى من غير أن يؤذيها، مقدماً صورة لجندي إسرائيلي حليم، كريم، ومضى. الصفة المعروفة في الجندي الإسرائيلي أنه يحارب الكاميرا، ويرتكب الجرائم في الظلام.
كان يمكن أن ينتهي المشهد الذي طار في الأخبار العربية والعالمية، إلا أن إسرائيل التي انقلبت على كل المعاهدات الدولية، التي عقدتها مع الفلسطينيين من أوسلو الأولى، ثم الثانية، ثم غزة وأريحا، ثم طابا، ثم واي ريفر وأخواتها، رأت أن تعاقبها من أجل هيبة الجيش الإسرائيلي، وأن تجعل للهيبة وجهاً ناعماً هو الحلم والعدل والشقار والإثارة.
المثل الحديث التي يرتاب في عدالة الشهرة، ويعيد بعض العدالة إلى أبطال الظل المنسيين، يقول: “الفعل لشيبوب لكن الصيت لعنترة”. الصيت سماعي وقديم قبل عصر الآلات، أما الشهرة، فبصرية في عصر الصورة. في سيرة عنترة وأخباره، التي رويت بالكلمات، كان شيبوب هو البطل المساعد، أما أبطال الكاميرا ذات العين الواحدة، التي سادت، فيزعم الكتاب وأصحاب الرأي أن صورتها لا يمكن أن تكذب، لكنها تكذب، إما بالتعليق والشرح المرافق أو بالتجاهل، والأمثلة أكثر من أن تحصى، مثال ذلك الطفلة الفيتنامية “كيم فوك” التي هربت من قنابل النابالم الأمريكية. خرج المحللون الأمريكان، وكانت أمريكا وقتها لا تزال تحتفظ بقشرة من الدين، بالقول: إنها عارية، وعيب، والطفلة مذعورة وتصرخ، وعارية تماماً، وتهرب محترقة، وهي في سن الرحمة والحنان، ودون سن الإثارة الجنسية، ونحيلة من شدة الجوع.
أما فيلم “هيرو” الأمريكي، فيقول: إن البطولة الأمريكية صفقة، نوع من التجارة، يمكن تقسيمها حسب رغبة الطرفين بين شيبوب الأمريكي وعنترة الأمريكي. وخلاصة قصة الفيلم أن بيرني المطّلق، الغارق تحت الديون، العصبي المزاج، ينقذ ركاب طائرة سقطت في الجوار، مكرهاً غير راغب، ونسي فردة حذائه، ثم سجن من دعاوى الديون بعد عملية الإنقاذ البطولية، ورأى في تلفزيون السجن أن السائق جون، الذي أقلّه بعد عملية إنقاذ الركاب، وأخذ فردة حذاءه كذكرى، قد ادعى أنه البطل الذي أنقذ الركاب، لحيازته برهان البطولة وهو: فردة الحذاء الثانية، الفردة الأولى كان بيرني قد نسيها خلفه، فتحول جون إلى رجل الساعة، ونجم الأخبار في أمريكا، والرجل السندريلا. في النهاية يقبل بيرني بيع البطولة لجون بالمال، لأسباب كثيرة نفسية واقتصادية. قصة عهد مؤمركة.
انقسم الناس حول صبية الساعة الشقراء الجميلة، قسم أول سكِروا ببطولتها وصيحاتها الغاضبة، وقسم ثان معارض، ذكّر بمواقف والدها المؤيدة لبشار الأسد، الذي دمر بلاده، وشرد شعبه وقتله، وقد ظلم شعب سوريا أضعاف الظلم الذي وقع على الشعب الفلسطيني. وقسم ثالث بين هذا وذاك، معجب، لكنه يدعو لعهد بالستر والحشمة، فعروس النضال الفلسطيني لا تظهر إلا بكامل زينتها، الشعر الغجري المجنون يسافر في كل الدنيا، ومعصمها المزين بالعقيق والخرز، والحطة الفلسطينية التي لبسها كل الساسة المنافقين في أعياد التنكر النضالية الكثيرة. الفطنون ينفرون من شيوخ السلاطين المقربين ومثقفيهم.
صدّر نشطاء صورة لها وهي تلعق الآيس كريم بعد خروجها ونيلها حريتها من القضاء الإسرائيلي “العادل”، الذي لم يتأخر عن إطلاقها حسب مدة الجزاء، ساعة واحدة، وعقدت مؤتمرات صحافية لها، تروي للصحافة تجربتها الفقيرة والقصيرة قياساً بتجارب ملحمية أهملت خشية الإلهام الذي تتضمنه. واحتفت تلفزيونات المقاومة والممانعة بها أيما احتفاء، فهي ابنة مناضل مؤيد للأسد، بما فيها فضائية العربية، التي كانت تحتفي بها أشد الاحتفاء في أول ظهورها، وعملت معها مقابلة مبكرة. ورسامون جعلوها أيقونة ورمزاً، تلتبس صورتها بفلسطين، وهذا ما لم ينله شهيد أو جريح فلسطيني، وهم بعشرات الآلاف.
القسم الثاني، قسم دعاة الستر والحشمة، هم الذين مازالوا بناشطتين مصرية وسورية معروفتين، لهما عشرات الآلاف من المتابعين حتى تحجبتا، وكنت أحسب أنهما مفيدتان في مقاومة الطغيان في مصر وسوريا وهما سافرتان. إن لم يكن من أجل الذرائعية، فلأن الحرب خدعة.
خرجت عهد صحيحة معافاة، تنضح شباباً، وشعرها غجري مجنون يسافر في كل الدنيا، في معصمها أساور حريرية، وعلى ظهر يدها عقد غريب يمتد من إصبعها إلى معصمها، وتتنقل بين التلفزيونات، ويستقبلها الرؤساء استقبالاً شرفياً. تناقل ناشطون قول شخصية إسرائيلية، يتباهى بأنها خرجت من السجن عذراء، يقصد مقارنتها بسورية ومصر، لقد جعلوا للنضال سندريلا، أما الذي صمم الحذاء فهو أفيخاي أدرعي.
لقد ناسب الحذاء، في عصر الأحذية والأبواط، قدم السندريلا الوحيدة.