منذ نحو نصف قرن، يفتح السوريون عيونهم صباحاً، ويغلقونها مساء على صورة الرئيس الأب، ثم وريثه الصغير الذي أصبح كبيراً، يصادفونهم في التلفزيون والجرائد والشوارع. أينما جالوا ببصرهم يرون صورهم معلقة في كل مكان، كلاهما مسلط عليهم، الأول من القبر، والثاني من القصر الجمهوري.
كان الرئيس الأب، حسب بروباغندا النظام، صانع كل شيء، من البلد الذي يعيشون فيه إلى الهواء الذي يتنفسونه، كأنما هو الأخ الأكبر صناعة الروائي الإنجليزي جورج أورويل في روايته الشهيرة عن هذه الأنماط من الزعماء الايديولوجيين، ليس بالدقة نفسها، فالوارث بلا أيديولوجية، إلا إذا كان القمع أيديولوجية. وإذا كانت الرواية قد تفوقت على الواقع من ناحية الثراء في التوصيف المتخيل للدولة الشمولية، لكن الواقع رغم هزاله تفوق على الرواية بتدمير الرئيس الابن لبلده وتهجير الأهالي، واجتراح مأثرة دموية تفوق بها، وتحسب له، بالمقارنة مع أبيه صاحب مجزرة حماه، بينما مجازر الابن شملت سورية كلها. فحافظ الوريث على الإرِث، كانت العائلة تصنع تراثها النضالي في الحفاظ على السلطة في مسيرة، تبدو محل تنافس، فالأخ ايضاً يشاع عنه، أنه لا يقل عن أخيه، بل وأكثر دموية منه، ولا ريب أن اللقب العملياتي لكل منهما أنه واهب الموت.
هذه المسيرة، ولو كان عمرها لا يتجاوز خمسة عقود، أصبحت ماض يختزن خططها في التقدم نحو المستقبل، ففي مثال الإبادة ايجاز يلخص عقلية الدولة الشمولية الرثة، مع إضافات تبرز القدرية التي لوحت بها شعارات أطلقت في مجزرة حماة عام ١٩٨١، عندما أخذ الغرور الضباط والجنود الذين قتلوا الآلاف من الرجال والنساء والأطفال، وطالبوا في هتافاتهم بإزاحة الله عن عرشه، وتنصيب الرئيس عوضا عنه. لم تكن كبوة ولا زلة لسان. كانت خطة بريئة تهدف إلى تعظيم البطل، استغلت في ذلك الوقت، دعاوى الشيوعية التي أعلنت موت الله، ونادت بالشعب إلهاً، بينما كان الشعب لا يفكر الا بلقمة العيش، يريد الحياة بكرامة مع العسكر، لكن لا كرامة مع العسكر.
كان العنف الاستئصالي دين الانقلابيين الثوريين، الأقوى من الأديان كافة، استناداً إلى أن الله لم يحرك ساكناً، إزاء مجازر كانت تجري تحت أنظاره. بينما كان القائد بطل التصحيح الوحيد الآمر الناهي في مدينة كانت تحترق والأهالي يحترقون، لا يسمع أصوات استغاثتهم سوى الذين أشعلوا النيران فيهم.
في سنوات الحرب السورية، استعيدت مأثرة الابادة، لكن على نحو أكثر اتساعاً، وأشد وحشية. كانت بحجم الوطن، وغدت من المسلمات، حتى أن الرئيس الابن تساوى مع الخالق، فصار الجنود يساومون المعتقلين على حياتهم: من ربك؟ فالخيار أصبح بين الله والدكتاتور. إن لم يعرف المعتقل الجواب الصحيح، يلقنونه إياه: ربك بشار. بينما في أقبية المخابرات، بلغت العنجهية بالجلادين، أنهم رفضوا مساواة الله بالرئيس؛ اذ لا رب سوى الدكتاتور، فلا جدوى من الاستغاثة بالله، فهو ممنوع من الدخول إلى فروع الأمن. ومهما كان جواب المعتقلين، كان ازهاق أرواحهم، دليلاً على قدرة الدكتاتور على منحهم الحياة أو حرمانهم منها. أصبح الموت البرهان العملي على ألوهة لا شك فيها، لكن في جحور أقبية الجلادين.
الأسلوب الأخير، جاء بعد سلسلة من الانجازات، أسهمت في تحويل الدكتاتور إلى إله، فالفكرة اجتازت أهوال الرعب والتعذيب، وسرت في الخفاء، وباتت مكشوفة، طالما هناك أقنية تتسرب من خلالها رائحة الموت. فطوال الثورة والحرب، جرى في العلن توثيق أساليب القتل بالصوت والصورة، وكان في تعميمها على وسائل التواصل، عبرة ذات تأثير فعال.
الجهود التي بذلت لتكريس عبادة الدكتاتور وسلالته، كانت لئلا يتجرأ أحد على المساس أو التشكيك بسلطة الرئيس القادر على كل شيء، تعبر عنها مقولة: إذا كان ينشر الأمن لا الأمان، فلن يتأخر عن نشر الموت.
هذا المسلسل، لا يفتأ يكرر أحداثه، لكنه بين وقت وآخر يتحفنا بجديد، مع أنه ليس جديداً البتة، الجديد فيه تعريضه للأنظار والأسماع، آخر حلقة، ولن تكون الأخيرة، مخلوف اللص الذي سرق الدولة والشعب، سرق أيضاً استثمارات العائلة الرئاسية، شركاؤه في النهب، واقتطع لعائلته القسم الأكبر منها، ما يعادل ميزانية دولة بحالها، الأرقام المتطايرة مع الاتهامات كانت بالمليارات، مخلوف سيتخلى عنها، بعدما طالب رئيسه بألا ينهب المنهوب، والتمس منه العمل على منواله، كان ينعم على الفقراء ويطعم الجياع، ولا يجهل أحد أن الفقراء والجياع هم اعوانه من الشبيحة والميليشيات الموالية له، يوصيه بهم خيراً، بينما هو يسلطهم عليه. ما أتاح لنا معرفة الوجه الآخر لمخلوف اللص، إنه الرجل الفاضل الكريم المؤمن.
ما قد يقال، سيجرح كرامة السوريين وقد انحدر بهم الحال إلى درك جعل حفنة من الحثالة والأوغاد يتحكمون بحياتهم ولقمة عيشهم، لكن فليرفعوا رؤوسهم، أسقطت الثورة الشعبية وحرب السنوات التسع الاله المختلق ومعها حسابات الخوف. لم يعد الدكتاتور أكثر من مجرم جبان، يقتل ويكذب، يتسول الغرب، ويخنع للروس، ويتزلف للإيرانيين أولياء نعمته؛ غبي، لم يغتنم فرصة تاريخية، كان بوسعه أن يكون رئيساً للشعب، لكنه اختار وهم الدكتاتور المعبود، المالك لبلد أصبح حطاماً.
عانى السوريون من الموت وعانوا من النهب، هذه الثنائية لم تفارقهم منذ جاء العسكر إلى السلطة، كان الثمن حياتهم وأولادهم وممتلكاتهم وأراضيهم، أما الذين في المخيمات وفي المهاجر، لم يفقدوا الوطن، إنه في المخيلة أصلب من الواقع.