دارنا العربية
توفيق الحلاق
إعلامي سوري
بالرغم من صغر سني في تلك الفترة من أواخرخمسينات القرن الماضي فقد كانت أمي تكلفني بمهمة عظيمة في صباح كل يوم جمعة . فمع شروق الشمس تلتئم العائلة حول قدر ( طنجرة ) هائلة المساحة فيمزقون عشرة أرغفة كبيرة إلى نتف صغيرة يملؤون بها ثلاثة أرباع الطنجرة ، ثم تزرع أمي في منتصفها كأساً صغيرة مليئةً بزيت الزيتون وتُحملني إياها لأغذ السير إلى دكان الحمصاني أبوفارق في حي القيمرية القريب . وكنت كما أمثالي من الأطفال نسرع الخطا بصحوننا وطناجرنا لنصل قبل أن يكتظ الزبائن أمام الحاجز( المستدار ) الذي يفصلنا عن مطبخ أبوفارق . كان أبوفارق ستينياً نحيلاً طويلاً يعتمر طريوشاً أحمراً ، وكان بهيَّ الطلعة بساماً كريماً ، وإلى جانبه كان يقف ابنه البكر فاروق الذي يستلم الأطباق والقدور من أيدي الزبائن ويرتبها حسب الدور ، ثم يُسلِّم كل زبون صحن الحمص ( المسبحة ) أو الفول أو قدر الفتة بالزيت أو بالسمن بعدما ينتهي والده من إعداده . حين وصلت ذلك الصباح كان الإزدحام على أشده ، ووجدت نفسي غارقاً في لُجةِ من الكبار لاأرى سوى ظهورهم وبطونهم . ناديت بصوت الطفل الحاد : (عمو أبوفارق .. عمو أبوفاروق .. دوري .. صار دوري . ) مدَّ فاروق يده واستلََّّ مني الطنجرة وسط تبرم بعض الكبارومباركة بعضهم الأخرلنجاحي في الوصول إليه قبلهم . بعد دقائق قليلة سلمني فاروق طنجرتي طافحةً بالحمص والسائل الأبيض المزين بالكمون والفلفل الأحمر . كانت أمي قد أدخلت في جيب بنطالي واقيّ الحرارة ( النزال ) وهو عبارة عن قطعتين مربعتين من القماش السميك متصلتين بقطعة من نفس القماش رفيعة طويلة ، حملت بهما الطنجرة وعدت أدراجي إلى الدار . على الباب الخارجي كانت جارتي هدى نظام وهي في مثل سني تلعب مع جارتنا الأخرى في الحارة . وحين رأتني منهكاً من وطأة حملي ضحكت وقالت ساخرة : (شبك عم طح كلا مابتطلع خمس كيليات ) أجبتها وأنا ألهث : ( هي فيها عشر كيليات تعي (روزيها ) أي احمليها وقدري وزنها . أقبلت هدى وأمسكت طرفي الطنجرة بقوة فلم تجتمل حرارتها فتركتها لينسكب كل مافيها على الأرض . أصبحت أمام معضلة رهيبة لاأدري كيف أواجهها ؟ دخلت غرفتنا منكس الرأس مهزوماً أروي ماحدث لآخواتي وأمي اللاتي كنَّ ينتظرنني على أحر من الجمر وبأيديهن ملاعق المعركة . شاهدن الطنجرة الفارغة وأدركن المصيبة ، وتطاير الشرر من عيوهن ،لكن أمي قالت : (انشاالله مانجرحت وقت وقعت ؟) لم يك من السهل على أخواتي قبول الهزيمة وهنَّ أبدين استعداهن لإعادة الكَرَة في تفتيت الخبز لولا أن أمي أخبرتهنَّ أن كل مالدينا في المطبخ رغيفين فقط . قلت مراوغاً ( إذا بتحبو بروح جيب خبز من عند الشاويش ( فران الحارة ) ؟ قلنَ بصوت واحد ( إي روح جيب بسرعة بنفتهن قبل مايسكر أبو فاروق ) أما أمي فقد أشفقت عليَّ من التعب وقالت لهنَّ : بيتعب أخوكن حرام . أجبنها بخبث : (لكن خلي وحدة منا تروح تجيب خبز ) أسقط بيد أمي فهي لايمكن أن ترسل ابنتها لتنحشربين الرجال أمام الفرن . وهكذا مضيت إلى فرن الشاويش وعدت مثل طير مطارد . أنهت أخواتي تمزيق عشرة أرغفة من جديد وغرست أمي كأس زيت الزيتون ورحت أعدو إلى دكان أبوفاروق فوجدت فاروقاً يشطف المحل بعدما انفض الجمع ونفذ الحمص والفول . هرولت إلى دكان الحمصاني أبومحمود وهوغير بعيد لكنه لايحظى بالإقبال من جمهور الحارة كما هو حال أبوفاروق وعادة ما يتأخر عنه في إغلاق دكانه ساعتين على الأقل . وكي تكتمل الهزيمة فقد وجدت الدكان مغلقة . عدت أدراجي لتستقبلنني أخواتي بوجوه مكفهرة . قالت ليلى وهي أكبرهن : (كلو من هدى هي اللي ضحكت عليك وجأجأتلي الحارة مشان حضرتك تقعد تلعب إنتا وياها وتقلا روزي روزي ).