ليس نقدًا أو توجيهًا وليس مدحًا أو ذمًا، لكنها ملاحظات وتعليقات حول ظاهرة استخدام تقنية البث المباشر التي راجت مؤخرا، بعد أن أتاحتها مواقع التواصل الاجتماعي، لدى العديد من النشطاء المهتمين بالشأنين السياسي والاجتماعي، والتي يومًا بعد يوم تزداد كمًّا ونوعًا، كما ازداد عدد المهتمين بها وبقضاياها، سواء من الجمهور أو من وسائل الإعلام التقليدية أو حتى من صناع القرار أو من هم في موقع المسؤولية.
بطبيعة الحال، وكمتابع عددا من “البثوث” الشخصية يوميا، وصل إلى درجة التخمة وعدم القدرة على متابعة كل ما يُبث، وكثيرون مثلي على ما أعتقد، أصبح من الممكن تصنيف ما يبث إلى عام وخاص، وهامّ وثانوي. وبحسب مزاج المتابع والمتلقي، وما لديه من فراغ وميول، وبحسب منشئ البث والمعرفة المسبقة به تتم المشاهدة ويتم التفاعل بصوره المختلفة المعروفة من مشاركة وتعليق.
لا يمكن إنكار أننا تمكنا من خلال هذه التقنية من متابعة الكثير من الفعاليات والندوات الهامة التي سمحت لنا الاطلاع على ما نرغب في الاطلاع عليه أو المشاركة فيه، كما سمحت لنا مشاركة الأهل والأصدقاء أحداثًا كنا نتمنى مشاركتهم فيها لولا البعد المكاني والعجز عن الاجتماع واللقاء، لكن بالمقابل أصبحنا نحسّ خلال المتابعة أو بعدها ببعض “المعاناة” أحيانًا من الإطالة والتكرار والسطحية واللاأهمية، وخصوصًا بالنسبة للبثوث المباشرة التي موضوعها شأن عام سواء كان سياسيًا أو اجتماعيًا.
ورغم نضوج ونجاح بعض التجارب في هذا المجال من حيث الشكل والمضمون للعديد من نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أن التجارب والمحاولات مازالت تترى وتتكاثر مع ملاحظة عدم استفادتها مما سبقها شكلا وموضوعًا، أو حتى إبداعها لأشكال ومواضيع جديدة تمنحها فرصة في النجاح والاستمرار؛ النجاح والاستمرار الذي سيحددهما الجمهور المتلقي، وما ستحدثه من آثار ونتائج على أصعدة شتى، ليس ابتداءا بنشر المعرفة والوعي وإطلاق التحليلات، وليس انتهاءا بالترفيه والمسامرة و”فش الخلق”.
وبغض النظر عن التجارب الناجحة والتي في طريقها إلى الاستمرار، أو الفاشلة والتي في طريقها إلى الاختفاء، يمكن للمتابع ملاحظة أن اللجوء إلى هذه التقنية من قبل البعض جاء لعدة أسباب منها الموضوعي ومنها العبثي، والموضوعية منها على سبيل المثال أن إيصال الرسائل عبر البث والظهور المباشر يبدو أفضل وأسهل من الكتابة بالنسبة لمنشئ البث وأقرب إلى نفوس بعض المتلقين على مواقع التواصل ووجدانهم، كما أن العفوية والتلقائية في طرح الأفكار وجهًا لوجه تبدو أفضل من الطروحات التقليدية المدوّنة، بالإضافة إلى وجود فرصة مباشرة للتفاعل والرد والتعليق والتنبيه والتعبير عن الرضا والإعجاب أو الرفض، وهذا يضيف ويعزز ويثري المادة المقدمة.
أما الأسباب العبثية، فمنها رغبة البعض من حائزي حسابات على مواقع التواصل في التجريب والمحاولة في مجال البث المباشر، اعتقادًا منهم أنهم أصحاب رأي ولديهم حضور، وقد أثبتوا نجاحًا في حصد إعجاب الكثيرين بمنشورات “مأثورة” و”مقتبسة” أو بتعليقات وافقها الصواب فوافقت هوى الأصدقاء، أو كانت من البذاءة بمكان رأى فيها البعض ما يشفي غليلهم أو يثير سخريتهم، فظن أنها رأي معتبر له جمهور ومتابعون ويستحق وصلة بث مباشر مبتذل.
وبغض النظر عن البثوث المبتذلة، التي لها أبطالها وجمهورها، والتي ستختفي قريبًا أو بعيدًا عندما “يعقل” الأبطال أو “يتوب” الجمهور، تبقى مشكلة البثوث التي يطلقها مدعو الفكر والطارئون على التحليل والناقدون لمجرد النقد، حيث نجد الفكرة غائبة أو غائمة، والموضوع ملتبس أو غير ذي أهمية، والأسلوب فج أو مرتبك، والعرض مغلوط أو غير مقنع، مع ملاحظة الإصرار على ارتكاب نفس الأغلاط والأخطاء في كل مرة، لتتواصل وتستمر المعاناة مع سيول العبث ولتضيع في زحمتها ومضات البثوث الجادة والبنّاءة والمقعنة.
المشكلة الأكبر هنا تبدو إحجام أو عجز بعض “أولي الرأي” و”أهل الفكر” عن مواكبة التقنية الجديدة، ومعظمهم يحترف ويفضل الكتابة عن إجادة واقتدار، فيما غابوا أو غيّبوا سابقًا عن وسائل الإعلام كالتلفاز والراديو كما غابوا أو غيّبوا عن التواصل المباشر مع الجمهور في المحاضرات والندوات، يضاف إلى ذلك سِمتا الحياء والتواضع أحيانًا، وأحيانًا النأي بالنفس عن الخوض في بحور العامة ومشاغلهم واهتماماتهم، وعدم الاقتناع بالجدوى من طرح الرؤى والأفكار والمبادرات على من هم غير أهل للاقتناع والعمل بها.
إن إيجابيات أو سلبيات ما نحن الآن بصدده من ظاهرة البث الشخصي المباشر وانتشارها وتطفلها على نوافذ انفتاحنا على العالم تبدو حتى الآن متوازنة من حيث السمين والغث، والمقبول والمرفوض، ويحتاج إنجاح هذه التجربة إلى وقفة أمينة للجمهور مع نفسه ومع مستغلي هذه التقنية، كما يفعل عندما يكون مستهلكًا أمام السلع المعروضة أو مشاهدًا أمام التلفاز أو مستمعاً للراديو، كما يحتاج إلى وقفة أمينة أخرى مع الذات لدى من يستغل هذه التقنية ليعرض رأيه، فحبذا لو أجرى استطلاعا للرأي، ليس من جمهوره وحسب، بل ممن يصدقه النصيحة ويهدي إليه عيوبه ليعمل على إصلاحها أو إراحة الناس منها.
إن “لزوم” استغلال هذه التقنية باعتبارها وسيلةً جديدةً وواعدةً للتعبير عن الرأي والتواصل مع الجمهور، ومنبرًا سهلًا ومتاحًا ومباشرًا، يكسر قيود وحدود ما كان “لا يلزم” من التعبير عن الرأي بل ولزوم الحجر عليه وتغييبه، خصوصًا في مجتمعاتنا القائمة في سياساتها وتوجهاتها على أساس “لا أريكم إلا ما أرى”، أساس تتحكم فيه السلطات السياسية والاجتماعية والدينية والاقتصادية، وأيضا السلطة الاستهلاكية، إن جازت التسمية، لتجد أفكار جديدة طريقها إلى الواقع، ويجد أفراد مكانهم الطبيعي كقادة للرأي أو مؤثّرين فيه على الأقل.
لكن لزوم ما لا يلزم أو لزوم ما كان لا يلزم، ليس من شأنه أن يكون حلًّا لمعضلاتنا المزمنة وإن كان طريقًا جديدًا ليس من الضرر السير فيه، بل من الضرر بمكان تركه وعدم استغلاله، ولعله يُسمعنا أصواتًا جديدة غير المألوفة، ويتحفنا بأفكار ثورية غير المعهودة، وقبل ذلك وبعده يعلمنا ويطلعنا ويدفعنا للتفكير والعمل بما يحسّن واقعنا ويرتقي بأوضاعنا.
كما أن لزوم ما لا يلزم أو لزوم ما كان لا يلزم، ليس من شأنه أن يفرز قيادات سياسية أو مجتمعية جديدة، لأن هذا وحده لا يكفي، فالناشط والمؤثّر سياسيًا واجتماعيًا ليس من له رأي فقط أو قدرة على العرض للأفكار والتحليل للوقائع والتنبؤ بالنتائج، بل هو من ينشط على الأرض وفي الواقع المادي وليس الافتراضي انطلاقًا مما يؤمن به ويفكر فيه، عبر العمل ضمن فريق أو منظومة بهدف تغيير الواقع أو تحسينه، وتقديم خدمة يحتاجها المجتمع وسد فراغ ما يعطل نمّوه وتطوره.
عن ” أخبار السوريين ” ، للاطلاع على الموضوع الأصلي ، اضغط هنا